القاهرة 13 اغسطس 2024 الساعة 10:57 ص
بقلم: د. هويدا صالح
"على حلّة عيني" فيلم تونسي ثوري برؤية نسوية، حصد العديد من الجوائز العالمية والعربية منها التانيت البرونزي، وأربع جوائز أخرى في أيام قرطاج السينمائي، وجائزة المهر الذهبي في مهرجان دبي السينمائي الدولي، وغيرها من الجوائز في مهرجاني فينيسيا بإيطاليا ونامور ببلجيكا. الفيلم للمخرجة ليلى بوزيد وهو أول عمل روائي طويل لها وبطولة المطربة المعروفة غالية بن علي، والفنانة الشابة بيّة مُظفر. وقد كتبت قصته ليلى بوزيد بالاشتراك مع الكاتبة الفرنسية ماري صوفي شمبون.
ثمة خطان دراميان ينظمان الأحداث في الفيلم، الخط الدرامي الأول هو قصة الفتاة فرح (بيّة مظفر) التي تحصل على شهادة البكالوريا، وترغب أمها حياة( غالية بن علي) أن تدخلها كلية الطب، حتى تضمن لها وضعا اجتماعيا مرموقا، لكن الشابة الممتلئة بالحياة الصاخبة والتحرر لها ترتيب آخر، فهي تريد أن تلتحق بفرقة غنائية مستقلة، تغني الموسيقى والكلمات الثورية، وتمارس الاحتجاج ومقاومة الاستبداد بالفن، فالزمن السردي في الفيلم يدور في العام 2010، قبيل ما سُمّي بثورة الياسمين، حيث كان زين العابدين بن علي يمارس قهره على الشعب التونسي، ويجند المخبرين السريين كوشاة على بقية الشعب، فوقعت فرح في الفخ، حيث وشى بها مخبر سري، وتمّ القبض عليها وتعذيبها، ولولا أن أمها دفعت الثمن من روحها ومن جسدها ما استطاعت أن تخرجها من السجن وتنقذها من تعذيب شرطة بن علي، فقد صادف أن أمها كانت تحب يوما رجل بوليس قبل أن تتزوج من والد فرح، وحين وقعت ابنتها في هذا المأزق اضطرت أن تذهب لحبيبها السابق ورجل السلطة وتتنازل عن كرامتها وتمنح له جسدها حتى يساعدها في الإفراج عن ابنتها.
الخط الدرامي الآخر والذي جاء خلفية للأحداث، ولم تركز عليه الكاتبة والمخرج ليلى بوزيد هو حياة الاستبداد التي كانت تعاني منها تونس. آثرت بوزيد أن تتعرض لذلك الخط الدرامي بصورة غير مباشرة حتى لا يتحول الفيلم إلى منشور سياسي، فجاءت الأحداث السياسية كخلفية فقط للأحداث، ولولا الأغاني الثورية التي كانت تغنيها الفرقة الموسيقية التي كانت تغني فيها فرح وحبيبها برهان ما عرفنا بهذه الخلفية السياسية.
-
التثوير السياسي التثوير الثقافي في الفيلم
يبرز سؤال مهم في الفيلم، هل يكفي أن نصرخ في وجه الاستبداد السياسي المتمثل في حكم زين العابدين بن علي والاستبداد الديني المتمثل في الجماعات الدينية المتطرفة التي تتبنى الفكر الراديكالي حتى نقوم بتقديم خطاب تنويري أم الأفضل أن نقوم بثورة ثقافية على ثقافة المجتمع الذكورية التي تختصر شرف النساء في الحجب والمنع؟
إن الكاتبة والمخرجة بوزيد ترى أن إحداث ثورة ثقافية تتحرر فيها النساء من القيود الذكورية التي تكبلهن هو الأولى حتى من مقاومة الاستبداد السياسي والفكري، فبطلتها فرح تريد أن تعيش حياة متحررة، تغني وقتما تريد وتمارس الحب وقتما تريد مع من يريده قلبها، لكن الاستبداد السياسي لا يسمح لها بذلك التحرر، فالسلطة المتمثلة في ضباط الشرطة حيث قبض عليها وتمّ تعذيبها حتى تتوقف عن الغناء الثوري تصدمها في برهان حبيبها، فيسمعها الضابط شريط تسجيل لبرهان وهو يصفها بأنها مجرد فتاة تريد رجلا تمارس معه الجنس، هنا تشعر فرح بالصدمة والفجيعة، فحين يريد برهان الذي شاركها حلم الغناء والموسيقى وشاركها تجربة تحرر الجسد، حين يريد أن يعود إليها ترفض فرح تماما، ومن هنا نشعر أنها تحررت من سلطة أخرى من سلطات التحكم في النساء.
-
الرؤية النسوية لليلى بوزيد
تسيطر على الفيلم رؤية نسوية تتماهى مع المدرسة النسوية الأنجلو أمريكية التي تختصر الصراع النسوي في صراع مع الرجل، متمثلا في برهان من ناحية والسلطة السياسية من ناحية أخرى، رغم أن ليلى بوزيد ثقافتها فرنسية وتشاركها كاتبة فرنسية، بل الفيلم نفسه إنتاج فرنسي، وهذه الرؤية النسوية الأنجلو أمريكية تناهض الرؤية النسوية الفرنسية، حيث كتابات جوليا كرستيفا التي ترى أن النسوية يجب أن تتسع رؤيتها، لتشمل كل المهمشين اجتماعيا وسياسيا وإثنيا وعرقيا وجندريا، ولا تقتصر على النساء فقط، فهامش النسوية بحسب المدرسة الفرنسية يتسع ليشمل كل فئات المجتمع المهمشة وليس النساء فقط.
الفيلم هو صرخة نسوية ضد الرجل وفكره الذكوري، وكذلك الفيلم يأتي من زاوية رؤية نسوية أثرت على الحبكة الفنية فيه، فالرؤية النسوية جعلت الكاتبة والمخرجة تبتعد عن فحولة الحبكة الفنية وتتجه إلى التشظي والتفتيت في الأحداث، فنجد السرد بالكاميرا والحوار عبارة عن شذرات سردية متناثرة، صحيح أن المتفرج سوف يخرج في النهاية بإطار حكائي، لكنه يظل متشظيا لا بطولة مطلقة فيه لشيء، فلا نستطيع أن نقول إن البطولة للموسيقى التي وضعها الموسيقي العراقي خيام اللامي، أم لكاميرا المصوِّر الفرنسي سيبستيان غوبفيرت، أم لأداء الأبطال وخاصة الشابة بيّة مُظفر ومنتصر العياري(برهان)، أم للمشاهد الوثائقية للمجاميع، حيث تقترب الكاميرا من تجمعات الناس ووجوههم، لتؤكد على أن الشارع التونسي كان يغلي تمهيدا لقيام الثورة.
آثرت الكاتبة والمخرجة بوزيد أن تبدأ الفيلم في الشهور التي سبقت قيام الثورة التونسية وتنهيه قبيل اندلاع الثورة، وكأنها تريد أن تؤكد على الأسباب التي أدت إلى قيام الثورة دون أن تقع في فخ المباشرة السياسية.
كأن بوزيد أرادت أن تصنع ثورات صغيرة في عقول وقلوب الشباب قبل أن ينطلقوا في شوراع تونس منادين بإسقاط النظام. على حلّة عيني أو عندما تفتحت عيناي بالتونسية هي الأغنية التي تصاحب بيّة (فرح) طوال الفيلم:" على حلّة عيني شوف ناس محرومة، تنفسوا تحت الصبّاط(الحذاء) دمهم مسروق وحلمتهم بالحة، على ظهورهم تبنات قصورات(تبنى قصور).
حينما تقع فرح بين يدي الشرطة ويتم تعذيبها واستباحة جسدها من قبل الشرطي تنهزم، تنكسر، وتذهب مع الأم خائفة منهارة، لكن الأم التي كانت تقاوم جموحها طوال الفيلم، وتحاول أن تمنعها عن الغناء حتى أنها في مشهد سابق على هذا الانكسار ذهبت إليها في المقهى الليلي الذي كانت تغني فيه وأخذتها من بين أفراد الفرقة وأركبتها سيارتها كي تعود بها إلى البيت وفي الطريق قادت السيارة بسرعة جنونية وهددتها أنها سوف تعمل حادثة لتموتا معا إن لم تمتنع عن الغناء، وتعدها الشابة أن تمتنع عن الغناء، وحين يعودان للبيت تدخل الأم حجرتها، فتغلق عليها الفتاة الباب وتخرج غصبا عنها، هذه الأم نفسها تحاول أن تستنهض روح المقاومة في ابنتها المنكسر، فتغني لها، وتذكرها بأغنية على حلّة عيني ويغنيانها معًا، ليصبح الفن وسيلة الإنقاذ من دمار الروح الذي أصاب الفتاة.
|