القاهرة 06 اغسطس 2024 الساعة 10:39 ص
د. محمد فتحي عبد العال
في الماضي كان تحديد ساعات النوم وأوقاتها اختياريًا ومزاجيًا، بل كان بعض الفلاسفة والمفكرين يناضلون من أجل عدم العبث بمكتسباته من ساعات النوم المتأخرة وعددها وحسبنا أن أبا الفلسفة الحديثة ورائد الميتافيزيقا الفرنسي "رينيه ديكارت" كان من طقوسه عشق النوم متأخرا في غرفة مدفأة بواسطة النار ولمدة عشرة إلى اثني عشرة ساعة ليستيقظ مع موعد الغداء، وكانت نظريته في ذلك أن النوم يغذي الدماغ، والعقل الذي يحلم به هو العقل النشط الذي يفكر باستمرار لكن ما إن تم اختياره بواسطة ملكة السويد الملكة "كريستينا أو كريستين" لتعليمها الفلسفة حتى اضطر لتغيير عاداته تحت رغبة الملكة؛ ليستيقظ في الصباح الباكر الساعة الخامسة مع السفير الفرنسي "بيير شانوت" ويدرس لها في غرفة غير مدفأة فتلقفته رزايا أعراض مرض الالتهاب الرئوي لتسلمه لهول المنايا فغادر الحياة في 11 فبراير 1650 م أي بعد أقل من عام على بداية تدريسه لها في أكتوبر 1649 م ..
في الهدي النبوي الإسلامي ارتبط تنظيم الوقت بالعبادات فكانت الدعوة للنوم المبكر والاستيقاظ في الثلث الأخير للقيام فقد جاء في صحيح الترمذي عن أبي برزة الأسلمي نضلة بن عبيد كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: يكرَهُ النَّومَ قبلَ العِشاءِ، والحديثَ بعدَها.. وكان حديث النبي صلى الله عليه وسلم للبراء بن عازب في صحيح البخاري: (إِذَا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ علَى شِقِّكَ الأيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ وجْهِي إلَيْكَ، وفَوَّضْتُ أمْرِي إلَيْكَ، وأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ، رَغْبَةً ورَهْبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَأَ ولَا مَنْجَا مِنْكَ إلَّا إلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بكِتَابِكَ الذي أنْزَلْتَ، وبِنَبِيِّكَ الذي أرْسَلْتَ، فإنْ مُتَّ مِن لَيْلَتِكَ، فأنْتَ علَى الفِطْرَةِ، واجْعَلْهُنَّ آخِرَ ما تَتَكَلَّمُ بهِ. قالَ: فَرَدَّدْتُهَا علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ: اللَّهُمَّ آمَنْتُ بكِتَابِكَ الذي أنْزَلْتَ، قُلتُ: ورَسولِكَ،قالَ: لَا، ونَبِيِّكَ الذي أرسلت).
الرئيس الأمريكي "بنيامين فرانكلين" كان له الرأي نفسه: "النوم مبكرا والاستيقاظ مبكرا يجعل المرء أكثر سلامة وصحة وثراء وحكمة " وقد طرح آراءه تلك في مقالات عنوانها "فن اكتساب الأحلام السعيدة" فكان ينام وفق روتين يومي من الساعة العاشرة مساء وحتى الخامسة صباحا أي سبع ساعات فقط وإن تشكك بعض معاصريه من مدى التزامه بهذه التدابير فترة حكمه.
على العكس كان القائد الفرنسي "نابليون بونابرت" والذي يرى أن ست ساعات كافية للرجل وسبع للمرأة أما الغبي أو الأحمق على حد زعمه وتعبيره هو من يحتاج لثمان ساعات. أما رئيس الوزراء البريطاني "ونستون تشرشل" فنظرا لضغوط الحرب العالمية الثانية فقد كان ينام خمس ساعات فقط من الساعة الثالثة صباحا وحتى الثامنة صباحا !
البعض ينظر إلى ضرورة تنظيم دورة النوم من زاوية صحية مهمة، إذ أن العشوائية في مواعيد الاستيقاظ والنوم يضيع على الإنسان فرصة استقرار نظامه الغذائي بشكل محدد يلبي متطلبات جسده فمثلا الاستيقاظ متأخرا وما يتبعه من إهمال وجبة الإفطار يزيد خطر الوفاة بأمراض القلب والأوعية الدموية لأنها مصدر للألياف وفيتامينات Cو D و E وغيرها من العناصر الغذائية المهمة لذا فوجبة الإفطار طقس يومي من الضرورة بمكان الحرص عليه وعدم إهماله حيث تقلل من أخطار الإصابة بالسمنة وما تسببه من السكري وأمراض الضغط والقلب والسرطان حيث تعمل وجبة الإفطار على رفع مستويات السكر وتنظيم الأنسولين في الجسم وتعزز من عمليات الأيض وزيادة الطاقة أثناء اليوم، وبالتالي تحد من الشعور بالتعب والوهن والحاجة لتناول وجبات دسمة على مدار اليوم وتسهم أيضا في الحد من سوء المزاج والاكتئاب عبر تقليل فرز هرمون "الكورتيزول" وكذلك تقلل من عدم الانتظام في الدورة الشهرية وشدتها وآلامها لدى السيدات بالإضافة لأهميتها في زيادة التركيز لدى طلبة المدارس ومن ثم رفع مستوى الاستيعاب والتحصيل والفهم.
كما وجد العلماء أن تناول الوجبات الرئيسية بشكل متقارب يؤدي إلى الوفاة المبكرة.. لذلك لا بد من التحلي بتنظيم أوقات النوم وأوقات الطعام قدر الإمكان .. أما ما يسمى بالصيام المتقطع وما يتضمنه من تخطي بعض الوجبات وخاصة وجبة الإفطار فقد لا يناسب الجميع، ولا بد وأن يخضع لإشراف طبي واشتراطات دقيقة حتى لا يسبب أضرارا جسيمة.
بلا شك الظروف الحياتية الحالية وضغوط العمل وتقلباته والمسؤوليات الجسام في عالم اليوم أصبحت هي بوصلة التحكم في عدد ساعات نوم المرء وأوقاتها لذلك لم تعد السمات الشخصية وراحة النفس والعقل ومراعاة النسق الصحي هي مالكة الزمام؛ لذا يبحث الناس عن أدوية وأعشاب تعينهم على النوم للتكيف مع أوقات الراحة المحدودة بين ساعات العمل الطويل واضطرار الشخص للالتحاق بعملين وأكثر لتدبير مقومات الحياة الأساسية. فحلم النوم الهادئ هنا لا بد منه. لم نعد نملك إلا بضع ساعات يأكلهن عمل شاق.
وكما تزعم الأسطورة اليابانية أن عدم استطاعتك النوم أثناء الليل تعني أنك مستيقظا وحاضرا بنشاط في حلم شخص آخر. وبلا شك الحب والوجد بين الجنسين يورث السهد وهذا أدعى لسعي المحبين في تناول المنومات للتغلب على هجران الحبيب ولوعة الحب.
عادة ما يتغلب البعض على مشكلة عدم النوم باستخدام بعض الأدوية والأعشاب كما أسلفنا مثل : (ديفينهيدرامين والدوكسيلامين مضادان للهيستامين وما لهم من تأثير مهدئ. من آثارهما الجانبية الشعور بالنعاس أثناء النهار وجفاف الفم والإمساك واحتباس البول، ونبات الناردين من آثاره الجانبية الصداع والضعف.
نأتي إلى أشهر هذه العلاجات وهو هرمون "الميلاتونين" الذي تفرزه الغدة الصنوبرية وهي من أصغر وأهم الغدد الصماء الواقعة في وسط الدماغ بالقرب من الغدة النخامية وأكثرها غموضا ويعد بمثابة المسيطر على الساعة البيولوجية للجسم للنوم والاستيقاظ ..حيث يتحول "التريبتوفان(حمض أميني أساسي يحصل عليه من الغذاء )" إلى "سيروتونين (هرمون السعادة وأحد أهم النواقل العصبية الكيميائية التي تستخدمها خلايا الدماغ للتواصل فيما بينها )" ومن بعدها إلى "ميلاتونين" وهذا الأخير يأخذ تسميات عدة منها هرمون الظلام والنوم حيث يزيد إفرازه في الظلام مع حلول الليل ويقل في الضوء مع خيوط النهار أو هرمون الشباب أو هرمون ساعة الجسم ..
يلعب "الميلاتونين" أدورا شديدة الأهمية فعلاوة على تأمينه نوما هادئا عبر تنظيم دورة النوم فهو يعزز من هرمون النمو بشكل مباشر عبر الحث على إفرازه من الغدة النخامية وبشكل غير مباشر عبر التقليل من السوماتوستاتين الذي يثبط إنتاج هرمون النمو.. علاوة على كونه مضادا للأكسدة يمنع تراكم الجذور الحرة (الشوارد) والسموم بالخلايا والحيلولة دون تأثيراتها الضارة والالتهابات النسيجية لذا فهو يعزز من صحة العين ومفيد في حالات الجلوكوما (ارتفاع الضغط في العين) حيث يمنع تلف أنسجة وخلايا العين و تعول عليه الأبحاث الحديثة في الوقاية من الشيخوخة -خاصة شيخوخة الدماغ- وأمراضها خاصة أمراض القلب والوقاية من تضخم البروستات ومرض الزهايمر علاوة على دوره في تأخير سن اليأس ذلك أن موقع مستقبلات "الميلاتونين" على الغدة النخامية والمبيض جعل لها تأثير كبير ومهم في تنظيم الهرمونات الجنسية ومن ثم الدورة الشهرية. كما أن له دور في تعزيز الجهاز المناعي..
يتناقص إفراز "الميلاتونين" تدريجيًا مع مشارف الأربعين من العمر وهو ما يفسر تقلص ساعات النوم التي تصاحب التقدم العمري في العادة.. كما أن التدخين والكحول والكافيين والإدمان على الأجهزة الإلكترونية وشاشاتها الساطعة قبيل النوم.. والنوم في إضاءة قوية (اللون الأحمر هو الأقل تأثيرا وأفضل لغرف النوم) والقلق والتوتر كلها عوامل تؤدي إلى قلة إفرازه.. لذلك ينصح من لديهم مشاكل من هذا القبيل بتلقي جرعة من "الميلاتونين" المصنع في هيئة أقراص أو كبسولات فموية مصنعة ما بين 0.5ملجم إلى 5ملجم أو من 2-5ملجم لمدة لا تتخطى ثلاثة شهور حيث تعمل بشكل آمن طالما على المدى القصير فتعالج اضطرابات النوم أثناء السفر والرحلات ولدى الأطفال المعاقين والمكفوفين (تعد الجرعات من 1-5 ملجم في الأطفال عالية وتسبب تشنجات) وفي حالات اضطراب طور النوم المتأخر حيث يقلل من الوقت اللازم للاستغراق في النوم وكذلك في حالات الأرق وذلك بحسب موقع مايو كلينك..
ومن المصادر الطبيعية التي تحتوي على "الميلاتونين" ومن ثم يمكن تعويض نقصه بواسطتها : (الجبن لأنه من مصادر التربتوفان على عكس الشائع من أنه يسبب الكوابيس !!-الفطر -الكرز-البقوليات مثل العدس والفاصوليا-الأسماك خاصة أسماك السلمون والتونة والهلبوت الغنية بأوميجا 3- الفستق- بذور الخردل الأبيض والأسود-كرنبري- الموز غني بالبوتاسيوم والتربتوفان -الحبوب الكاملة لغناها بالماغنسيوم كالقمح والشعير والأرز بسمتي -الحلبة-البيض المسلوق-صدور الدجاج والديك الرومي -العنب- بذور دوار الشمس - بذور القرع والسمسم.
الأعراض الجانبية للميلاتونين هي: الصداع - الدوخة والنعاس وقلة الانتباه والتركيز وخطر السقوط - الغثيان - الكوابيس -الإسهال أو الإمساك - تقلصات المعدة-فقدان الشهية؛ لذا ينبغي تجنب قيادة السيارة عند أخذه. كما ينبغي توخي الحذر حول تداخلاته مع الأدوية الأخرى مثل: أدوية مضادات تخثر الدم كالوارفارين وهو ما يزيد من خطر النزيف - موانع الحمل والتي تزيد من إفراز الميلاتونين عن الحد المطلوب -مثبطات المناعة مثل الستيرويدات -أدوية ضغط الدم والسكري.
مشكلة التعامل مع الخيارات الدوائية والعشبية والانتقاء بينها وتغليب خيار منها دون آخر أنها دائما ما تأتي من التناصح بين الناس دون اللجوء للاستشارات الطبية وهذا آفة الآفات ومنجم الخطر فما يصلح لحالة شخص قد لا يصلح لأخرى. إنه العلم ممثلا في أهل التخصص أيها السادة هو الذي يحتكم إليه حين التشكك من أمر أو الرغبة في اتخاذ قرار.. وخيارات الصحة أعظم هذه القرارات قاطبة وأشدها وطيسا .
|