القاهرة 06 اغسطس 2024 الساعة 10:32 ص
إبراهيم المليكي ـ الجزائر
إن الأحداث التاريخية المعاصرة والقريبة صارت مادة مغرية للكتاب لتناولها سرديا، وخاصة ثورات الربيع العربي وما تلاها من أحداث شكّلت خريطة المنطقة العربية. وما حدث في مصر في الثلاثين من يونيو من عام 2013 هو حدث بارز في كثير من السرديات المصرية، فقد مثّل هذا التاريخ نقطة تحول كبرى، فبعد وصول الإخوان المسلمين للحكم، وانفرادهم به بعد إقصاء التيارات السياسية المصرية المختلفة ثار الشعب المصري وخرج للطرقات والميادين مناديا بخروجهم من الحكم.
ومن الكتاب الذين أرّخوا لهذه الفترة من تاريخ مصر الكاتب عبد النبي فرج في روايته" كلاب برية" التي صدرت عن الآن ناشرون وموزعون بالأردن. وفيها يصف الكاتب سرده القصصي والروائي بالسرد الملغّم، الذي حال دون نشر أولى مجموعاته القصصية " جسد في ظل"، وظلت هذه الصفة ملازمة لسرده الروائي. ونموذجا لسرده الملغّم ما يورده الكاتب صفحة 271، إذ يقول "لم أكن أتصور ذلك! وطلب مني أن أنضم لتنظيم سري من الشرفاء من أبناء الوطن، يديره رجل أمن كبير في الجزيرة، ورغم أنني لم تكن لدي رغبة في تعريف أحد بما أقوم به من دور وطني، لكنني وافقتُ، وجمعت الشباب الذين يعملون معي، وحضرنا اجتماعًا مع القيادة، وكان لنا دور كبير في حماية مصر من الإخوان، والشيوعيين، والشواذ، والجواسيس، والعملاء، واستطعنا مع «البلاك بلوك» قصمَ ظهورهم، وتشتيت شملهم، والعودة بمصرنا الحبيبة كما كانت". وربما سيفهم القارئ أن الحديث يدور حول ثورة 30 يونيه التي تجمعت فيها كل أطياف الشعب في رغبة حقيقية في إزالة الإخوان المسلمين من الحكم بعد أن ثبت فشلهم وعدم ولائهم للبلاد لحساب مفهوم الخلافة الإسلامية الأوسع.
الشخصية الرئيسية في الرواية مصري الجنسية بسيط من أبناء الصعيد، يشارك في الحرب ويؤسر( لم تحدد الحرب هنا)، ثم يعود إلى بلده بعد سنوات يكون ابنه أصبح فيها شابا، ثم تدور مفارقات في حياة هذا الجندي تكشف عن واقع اجتماعي وسياسي وثقافي مرتبك.
تبدأ الرواية بالإشارة إلى سنة 1952، دون أن تتبعها أي توضيحات، هل هي سنة أحداث الرواية، لكن الكاتب يشير إلى حرب سبقت هذا التاريخ، التي نرجح أن تكون الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، وتكون سنة 1952 في هذا السياق هي سنة فاصلة بين زمنين، أما مسرح أحداث الرواية فهو جزيرة.
تبدأ الرواية بمشهد من مشاهد يوم القيامة "رياحٌ ترابيةٌ كنست الطرق، غبارٌ حجب الرؤية، عاصفةٌ رمليةٌ قدمتْ من الجنوب تحمل أوبئةً وحشراتٍ لم يروْها من قبل، زواحفُ مخيفةٌ، أرواحٌ شريرةٌ هربت من الجحيم عائدة لتنتقم، هبَّاتٌ رمليةٌ تدفقت في الجزيرة مع صوت صفير أطار النوم من عيون الكبار قبل الصغار، لو استسلم أحد برهةً للنوم تداهمه الكوابيس، الجو تشبع بشبورة وضباب صحراوي حجب الشمس في عز الظهيرة، أتلف الزراعات، أسقط الثمار، أطاح بالعشش والأخصاص". الكلاب البرية تظهر في هذا اليوم وفي هذا المشهد. كلاب شرسة تفترس الآدميين والبهائم، مشاهد غرائبية قاسية، وتدور أحداث الرواية في بيئة تعج بالخرافة: "تزوجتْ عزيزة محمد، من جن نمرود، كان يذيقها ويلات العذاب، أنجب منها ستة أولاد، أشبه بأولاد الملوك".
وفي السياق تعرض الرواية لبعض القيم المنتشرة في ذلك الزمن، فمثلا نظرة الفتاة الريفية للحب، الذي يعد عارا، إذ عندما يبعث لها المعلم رسالة تتضمن قصيدة في حبها، تفكر بينها وبين نفسها: «هو فاكرني واحدة من بتوع العاصمة الأوساخ؟!» وهنا نجد مقابلة بين قيم القرية( الأصيلة) وقيم المدينة (الفاسدة)، ويبرز الرواية الحس الساخر من أميّة المجتمع عندما يعتقد أحدهم عندما يسمع عبارة حسن السبك، فيعتقد أنها اسم شخص. وفي أسماء العائلات: عائلة الضب، والبغل، وأبو عوارة أو في وصف بعض المواقف "كل فترة يرفع فخذه يخرج ريحًا بصوت مزلزل ورائحة نتنة".. كما وتشير الرواية إلى تخلف الوعي في المجتمع: "ثم نظر إلى الكتب المرصوصة على المنضدة ... فقال الناظر:
الكتب دي هي سبب البلاوي السودا، هي اللي لحست مخك، احرَق الكتب دي وعيش عيشة أهلك!".
في الوقت نفسه تقدم الشخصية المصرية التي لا تساوم بالموضوع الوطني وحب الوطن، فهذه الأم ترد على ابنها المتخاذل عن الالتحاق بالواجب الوطني: "بتولول ليه ...؟! دي حرب بتدافع عن تراب بلدك وعرضك، هو يا ابن الكلب لو انت واللي زيك تخاذل ونام على بطنه جنب مراته، مين يدافع؟! ألبْسك طرحة وابعت نعيمة بدل منك! قوم يلعن أبوك عرّة ابن كلب".
السرد في الرواية يتناسب مع بيئة العمل نفسه، البيئة الريفية التي تحتفي بالسرد الحكائي، وهو سرد سلس، حيث تكون الأحداث فيه متواترة، والحوارات مقتضبة، واللغة زاخرة بالمفردات والتعبيرات الشعبية،"فصفارة صفرت في البلد، إبراهيم صالح الجندي، البطل الذي حارب العدو وتم أسره، عاد، نسجت قصص وخرافات مدهشة كلما سمعها أراد أن تنفتح الأرض وتبتلعه للأبد، المجالس تقام ثم تنفض وهو جالس كـ«بوذا» صامتًا، والأهالي يقتاتون على المرويات الخيالية".
يذكر أن الكاتب المصري عبد الغني فرج سبق وأن أصدر عددا من المجموعات القصصية، منها: "جسد في ظل"، "طرق ممتدة أو طفولة ضائعة"، و"الحروب الأخيرة للعبيد"، ومن الروايات: "مزرعة الجنرالات"، "وسجن مفتوح".
|