القاهرة 06 اغسطس 2024 الساعة 10:20 ص
د. هويدا صالح
الفلسفة والشعر هما شكلان مختلفان للتعبير الإنساني، على الرغم من أنهما يشتركان في بعض القواسم المشتركة. فالفلسفة هي نظام يركز على الدراسة المنهجية للأسئلة الأساسية حول الواقع والمعرفة والقيم والعقل واللغة. يستخدم الفلاسفة التفكير المنطقي، والتحليل المفاهيمي، وتقييم الحجج لاستكشاف المفاهيم المجردة والتوصل إلى استنتاجات منطقية. والهدف من الفلسفة هو الحصول على فهم أعمق للعالم وحالة الإنسان.
في المقابل، يعد الشعر شكلاً من أشكال الفن الإبداعي الذي يستخدم اللغة لإثارة المشاعر ونقل التجارب والتعبير عن وجهات النظر الخيالية. يعتمد الشعراء على أدوات مثل الاستعارة والإيقاع والصور لصياغة أعمال تقدم فهمًا أكثر ذاتية وبديهية للوجود. غالبًا ما يكون هدف الشعر هو تصوير جمالي بطريقة أكثر تعقيدا وغموضا للتجربة الإنسانية، وهذا التعبير يجب أن يكون بطريقة فنية.
بينما تسعى الفلسفة إلى الحقيقة الموضوعية من خلال البحث العقلاني، فإن الشعر يحتضن الجوانب الذاتية والعاطفية والغامضة للتجربة الإنسانية. ومع ذلك، يمكن أن يتقاطع التخصصان، حيث يمكن للأفكار الفلسفية أن تكون مصدر إلهام للأعمال الشعرية، وقد توضح التقنيات الشعرية المفاهيم الفلسفية. في نهاية المطاف، تقدم الفلسفة والشعر مناهج تكميلية لفهم العالم والحالة الإنسانية.
السؤال الذي يجب أن نطرحه، هو: ما الذي تفعله الفلسفة ولا يفعله الشعر؟ والعكس صحيح.
يقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز أن الفلسفة هي "عملية صنع المفاهيم". كما أن مفردة "الشاعر" في اليونانية تعني "الصانع". فالشاعر يصنع، يخلق، يلحن. وكذلك يفعل الفيلسوف. ولكن ما الذي يتم صنعه؟ الصور والأصوات والعلامات. في نهاية المطاف إن الشعراء والفلاسفة يعبرون عما هو غير مادي، وكل منهم يعبر ويخاطب جانب من جوانب الإنسان.
كما أن الكثيرين يرون أن الفرق بين القصيدة والنص الفلسفي هو أن أحدهما يصنع المفاهيم والآخر يصنع المشاعر. ولكن ما هو الشعور إلا المفهوم – كل منهما عبارة عن تجريد من نوع ما يقرب لنا التصورات المغايرة للعالم ، وكما يقول الفيلسوف البريطاني فيتجنشتاين: "يجب أن تُكتب الفلسفة كتأليف شعري". ولكن ربما يمكننا أن نذهب أبعد من ذلك، ربما لا نحتاج إلى رسم خط بينهما في البداية. فالشعر هو تصور فلسفي للعالم. مثلما يستخدم الشعر اللغة بطرق تتحدى الإلقاء "الصحيح" والنحو، كذلك تستخدم الفلسفة اللغة بطرق تتحدى بديهيات "النص الفلسفي"، مما يدفعنا نحو شعرية الفلسفة.
وقد أشار ميشيل فوكو للخطاب الشعري بأنه "علينا أن نكتشف أماكن الصمت قبل أن يغطيها الاحتجاج الغنائي". وهذا يحمل الكثير من المعاني. إنه ينص في المقام الأول على أنه بمجرد أن يصبح الشعر غنائيًا، وأكثر من ذلك حين يكون احتجاجًا سياسيًا أو بمثابة المنشور السياسي، فإنه لم يعد يتحدث عما يُسكت "أنفسنا"
من المثير للاهتمام أنه توجد في فلسفة الرياضيات مدرسة بديهية للرياضيات في هولندا تراهن على الحدس في دعوة مدهشة لمفارقة المعنى اليقيني المحكم، وبحسب الفيلسوف الإيطالي كارلو بنكوCarlo Penco فإن الحدس يعني هنا التحرر من أي منطق يحكم الوعي. لا يجب أن تكون الأشياء وليدة الضرورة، بل يمكن أن تكون نتيجة خلق حر. إن هذه الاختلافات الحقيقية تترك مساحة كبيرة للتنفس، وهو أمر تفوته مدارس الأفكار التي تتبع منطق الضرورة. فهل يمكن أن تمثل مساحة الحرية في التخيل وإيجاد العلاقات بين المفردات والتراكيب بهدف صنع حالة شعرية هو الفرق الحقيقي بين الفلسفة التي ترتكز على الإحكام التعبيري والشعر الذي يراهن على المغامرة التعبيرية؟
لكن حين نتأمل جمالية الخطاب الشعري الما بعد حداثي نكتشف أن دور الفلاسفة مقارنة بالشعراء، خفت وتباعد، بل وصار هؤلاء الفلاسفة يرتكزون على أسس أضعف بكثير من الشعراء. لقد أفقدت ما بعد الحداثة، خاصة من وجهة نظر الجمهور الأوسع، الفلسفة أدوارها الاجتماعية والعملية التي كانت تتمتع بها عندما كانت الكلمات الحكيمة التي يتحدث بها الناس تعني شيئًا، خاصة حين كان الفلاسفة يفكرون كثيرًا في كل شيء. صحيح أنه لا يزال هناك فلاسفة قادرون على فعل ذلك، لكن معظمهم لا يُسمع بهم في عصر الميديا الحديثة.
أحد الأسباب العملية للضعف النسبي لدور الفيلسوف هو أنه بدلاً من التعبير عن نفسه كما يفعل الشعراء يميل الفلاسفة إلى التحليل وإيجاد الأسباب المنطقية لحدوث الأشياء، بل والاشتغال على الدلالات المنطقية للكلمات وظلال معانيها، في حين أن الشعراء وخاصة في قصيدة ما بعد الحداثة قد يحشدون للغة في قصائدهم الدلالات الضد، أو الدلالات المفارقة للمعاني العقلية والمنطقية. كذلك يتمتع الشاعر أيضًا بميزة قدرته على إبقاء النص مفتوحا على دلالات متنوعة واحتمالات شتى لتأويل الدوال، وكأنه لا ينبغي أن نعطي إجابة عندما تكون الحياة نفسها لغزًا كبيرًا. وكثيرًا ما يوسع الشعر هذا اللغز ويظهر في المعرفة العميقة للمجهول. هذا يشبه نظر فينسنت فان جوخ إلى نفسه، فلا يجد في هاوية ذاته العميقة سوى "العدم".
في اليابان قاموا ببناء جدار بارتفاع عشرة أمتار لحماية الأرض الداخلية من أي تسونامي محتمل، ولكن بعد ذلك جاء الزلزال الذي دمر محطة الطاقة النووية في فوكوشيما عام 2011، ومعه اجتاحت موجة تسونامي الضخمة الجدار بسهولة. كان من الأكثر حكمة لهؤلاء أن يفعلوا مثل العديد من السكان الأصليين، لا يعيشون أبدًا بالقرب من البحر، بل يعيشون بدلاً من ذلك على أعالي الجبال أو حتى تلال بما يوفر لهم الأمان في كل الاحتمالات. ولعل القصيدة يمكن أن تكون شيئا من هذا القبيل، ممارسة الحكمة بأن ليس هناك الكثير مما يمكن أن يقال. يتم ذلك بهدوء وبطريقة خفية، ويحقق الشعر بهذه الطريقة القرب من الذات الحقيقية.
ويظل دور كل من الشاعر والفيلسوف، في حالة السيولة التي تشيعها ما بعد الحداثة والميديا الجديدة، دورا أقل كثيرا مما كان يحدث في عصر الحداثة حيث انضباط المعاني والدوال، بل وقيمية الرؤى. لذا فإن ما بعد الحداثة أضرّ بكل من الشعر والفلسفة، فثقافة الاستهلاك المرافقة لحالة السيولة الما بعد حداثية تجعل كل ما هو سطحي وريزومي يطفو ويعلو صوته، بل ويشيع، كما تجعل كل ما هو عميق ورؤيوي خافت ولا صوت له.
|