القاهرة 30 يوليو 2024 الساعة 10:49 ص
كتب: إبراهيم المليكي ـ الجزائر
رواية "الساحرة في رواق الزاوية" للكاتب الأردني مصعب البدور هي متتالية روائية تجمع بين الفانتازيا وروح الصوفية عبر شهود ثلاثة وكأنها فصول منفصلة متصلة.
ويبدأ مصعب البدور روايته متتبّعاً أثر الكلمات في حياة الإنسان، ودورها في تغيير مصيره، كما يوازي بين الرسم المُلهَم الذي يعرض مشاهد من أحداث ستدور في المستقبل من خلال أحد الأبطال الرئيسيين في الرواية.
يقول مصعب البدور في مقدمة الشهود الأول: "بعض الكاميرات تشوِّه الحقيقة، وبعض الأصوات تكون مزيَّفة، ربما الكلمات وحدها القادرة على المرور من كل الحُجُب، واصفة الحقيقة، فلو عرضتُ لك صورة فتاة صغيرة تعبث بهرة، فلا أعتقد أنك ستصدِّق أنها تسحبها بخيط خفي، تشدُّها من أي مكان كانت فيه، فتاة تستطيع جمع الكائنات والأشباح، والذباب البشري، ثم تبهرك وهي تنثُّ سحرها متطايراً في الهواء، براءة وجهها معقَّدة، فصورتها ستغرُّك بين لذة الطبيعة وبراءة النظرة وبين هالة الحجاب، والحركة الهادئة السريعة".
ويتابع مصعب بعد بضعة أسطر: "الكلمات وحدها قادرة على صناعة صنم للأشخاص، فلو رأيتم صورة طفل أشعث بين أروقة الزاوية يدور في حلق الذكر، فهل ستعتقدون أن خطه سيئ حدَّ الطلاسم، وهل سيتكشّف لكم عن عقل عبقري يتصوَّر كل شيء ويرسمه، هل ستصدقون أنه يرسم كل شيء لكنه على خصام مطلق مع الكلمات؟ رسْمُه كلّهُ مُتقن إلا رسم الكلمات، لا يَجِدُ بينه وبينها كيمياء، إنه فن العلامات".
وكأن "الكلمات" بطل موازٍ لشخوص الرواية فيتحدث عنها من جديد بعد بضع صفحات أخرى: "لماذا على الكلمات أن تخلف ندوباً في النفوس، لماذا عليها أن تسوّد جدران أرواحنا ومهجنا، لماذا الكلمات تخرق الآذان لتستقرَّ في القلب، لماذا تخدِّرنا الكلمات حتى تتبلَّد مشاعرنا؟ لربما لو وزن النَّاس كلامهم لاستقام الحال، أو انفرط عقد كل شيء".
وفي الفصل المعنون "علامات" يقول مصعب البدور: "ويسألونك عن فتى تتيه فيه كلمات، فإن قلْتَ: عجيب فهو أعجب، وإن قلتَ: لامع فهو ألمع، إن قلتَ: درويش فهو مريد حدَّ الانجذاب، وإن سألوك عن شعوره فقل فيزياء.
وحدها الفيزياء تحتلُّ مساحة الإيجابية فلا تعترف بالبرودة، وتصرُّ على الحرارة معاندة لغات العالم، وحدها الفيزياء تكرِّس الترند القديم "كل شيء فوق الصفر إنجاز" أرأيت مسألة فيزيائية واحدة تقيس قِصَراً!".
ويؤصِّل مصعب البدور لمدى أثر الكلمات ودورها في تحديد مصير الإنسان، في بدايات الشهود الثاني قائلاً: "الاختيار في أبجديتك اختيار إلهي ليس كمثله اختيار، حتى الأدب الإنجليزي الذي اخترتِه لتكوني معلمة له كان مزيجاً فريداً بينكما أنت والشعر الرومانسي، أنت ولوسي غراي توأمان، تنحدر السلسلة كلها من توت شفاهك كأنها سلاف فلوسي التائهة البريئة وأنت الراحلة البريئة، أما القيثار فهو اختارك إن كان بيدك تغيير السلم الموسيقي ليصبح منك، اختارك وأثار دار سعدا ضد ابنة الشيخ _عروس الحضرة_ فلم يكن مثله اختيار، الجبريات في خوافقك أيضاً لم يكن مثلها، فهل أحدِّثك عن لونك؟ لماذا كنت ذات خدود حمراء ولون أشقر لم يُر من قبل على امرأة؟ حتى حروفك التي لم تُكْتَب من قبل حروف فذَّة، وصورتك التي رسمتُ ولم أرَك قبلها، هل يصدق عقل أن أرسمك فتكونين؟
ألم تكن فلسفتك الخلود، صورتك خالدة كلماتك لا تنمحي، حتى ردك: حاشاه من لا شريك له، هو لا أحد سواه إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون".
وفي الشهود الثالث يقول مصعب البدور بنكهة صوفية بادية: "قدح في ذهني كلام شيخي يوم حملوا عبير إلى مرسى سفينتها: يا درويش لكل شيء ظاهر وباطن، ربما يكون الظاهر شرّاً والباطن خيراً، وربما يكون الظاهر خيراً والباطن شرّاً، ألم ترَ الخير في خرق السفينة، والرحمة في قتل الغلام والغنى في إخفاء كنز الأيتام؟ كل ما عليك أن تثق بما اختاره الله".
وكذلك يقول مصعب البدور في الشهود الثالث والخير: "الأخوَّة لا تعرف حاجزاً ولا تعترف بالجليد، مهما تجمَّدت روح العلاقة تبقى للأخوَّة حرارة تذيب كل شيء، قادرة على صهر التاريخ وتشكيله من جديد، لم يتمالك بكري نفسه عندما رأى عدنان يدخل البيت عنده خرّ راكعاً، لن يغسل البكاء الأحداث ولن تقف الأيام عن زلة أو عثرة، العاطفيون وحدهم من يدركون معنى أن يفسد يومك لأن يد الباب عاندتك، وهم ذاتهم المتذوِّقون طعم كل حدث يحترقون في الفرقة، وهم خير من يفرحون باللقاء، هم أهل الألم إذا أحسوا بطعنة، وأسرع من يصفح".
وقرب النهاية يقول مصعب البدور في لغة مرنة حمَّالة أوجه: "الاستقامة أقصر الطرق إلى كلِّ شيء، والمنحنيات تأخذك بعيداً، وحدها المنعطفات حافلة بالانقلابات، هل سمعت عن مستقيم أخطأ نقطة؟ لكن الدائرة تطوف حول نقطة المركز ولا تدركها، فإن هي قرَّرت أن تلمس المركز خرجت عن كونها دائرة".
|