القاهرة 30 يوليو 2024 الساعة 10:48 ص
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
تعد الروائية سحر الرشيد واحدة من أهم كتاب وكاتبات الرواية في الوطن العربي، بل إنني أراها تحفر اسمها بجدارة في مسيرة السرد الروائي الكوني، العالمي، أيضا.
لقد اعتمدت سحر الرشيد أسلوبا مابعد- حداثي؛ لتنقل لنا أفقا تغريبيا؛ إدهاشيا؛ عبر سيمياء الأسطورة، وكأنها تنطلق من علاقه علم النفس بالرواية، أو تنقلنا إلى عالم تداخل الأجناس الأدبية عبر مسيره السرد السيميائي الباذخ، الذي يأخذ القارئ- منذ البداية- إلى عالم الروح، واستبطان كوامن الذات الانسانية من جهة، وإلى عالم الأشباح، وجنيات الماء خلف المقابر، التي تخفي وراء أطلالها، وساكنيها قصصا وحكايات، تستدعي حيوات كانت ذات يوم هنا، عبر المكان فخلف كل قبر حكاية ووراء كل حكاية حكمة، وفلسفة، ومعان إنسانية تكشف عن مكتنزات السرد الشعري، الذي يعكس روح الجمال لدي الكاتبة التى تهفو إلى التكثيف، وتسارعية الأحداث، والانتقال بسرعة عبر سينوغرافيا المشاهد، وكأنها تكتب للسينما، باقتدار شديد، بارع، وجميل.
إنها رواية تنشد الحرية، وتحرر طاقة الروح والجسد، فتدفع بالقارئ إلى أن يلهث لاستجلاء حقيقة الأحداث، عبر مسيرة السرد السيميائي، وعبر معادلات الذات والموضوع، والخطاب الروائي المبهر، والعجائبي، والإدهاشي والماتع أيضا.
إن رواية "الحقيقة البكماء"، للكاتبة العراقية سحر الرشيد ؛ تستدعي -منذ البداية- التساؤلات الممتدة حول ماهية العنوان؛ الذي يحمل تناقضا ظاهريا، إذ الحقيقة جلية، واضحة، ومعروفة؛ ولكن وسمها بالبكم، يستدعي الصمت والسكون؛ والغرابة والدهشة، دا أرادت المراوحة بين التناقضات؛ لندلف معها إلى ذواتنا المقهورة؛ لتظل الحقيقة خرساء، لا تستطيع التفوه، بما خلف ظلال المعاني والكلمات.
ويقيني إن استخدام الكاتبة لتقنية السرد التغريبي، قد منح الرواية فضاء أبستمولوجيا ممتدا، ومساحة تتناسب مع تتابع الأحداث، -وأعني بمصطلح السرد التغريبي- هنا؛ هو الجو الروائي العام لزمكانية الرواية، التي تنطلق عبر بيئة غربية، أوروبية؛ حيث ندف الثلج، والجليد، والمعاطف، و"طقوس اليوجا"؛ وحذاء الثلج، والبيئة التي تفوح من هوائها روائح الغرب الأوروبي، رغم وجود دلالات أسماء أبطال الرواية العرب؛ أو السريان، مثل: إبراهيم؛ العم زكريا، إلى جانب سالي، و(تينا) زوجة إبراهيم الأولى؛ وهي أسماء أجنبية، ونرى بداية إلغازيات الرواية، وشيفراتها، حيث وجد إبراهيم زوجته، تينا، التي لم تتعد العشرين ربيعا، غارقة في أرجاء البحيرة، ومعها كرسيها المتحرك. ورغم هذه الإعاقة، وحادثة الغرق الشنيعة؛ فلم تعثر القوات الأمنية، على الجاني. ويعتقد إبراهيم زوجها أن والدها "العم زكريا"؛ هو الذي قتلها، رغم حبه الشديد لها، لخوفه على حياتها، بعد موته، أو قلقه وزواجه لعدم عناية زوجها إبراهيم بها، بعد رحيله.
إنها رواية الدهشة، والخوف، والترقب؛ بل والرعب؛ وغياب الحقيقة، رغم عدم التصريح بالزمن، أو المكان، لتتحول الرواية؛ أو (النوفيلا) القصيرة، إلى (أسطورة تانيا)، ذات الثوب الأبيض، الملطخ بالدماء، والأصباغ الحمراء، وصاحبة الشعر الأصفر الطويل، التي تحولت بعد موتها، إلى إحدى جنيات الماء، بل وظهورها لسالي، وإبراهيم ووالدها، عبر مثيولوجيا التخييل.
لقد تحول والدها" العم زكريا"، بعدها إلى مجذوب، أو مختل نفسيا، وحركيا، وجسمانيا، فنراه يترك عمله - ككاتب للمسرح، وأحد أهم الماهرين في "مسرح الدمى".
وكأن التماثل النفسي، والتقارن، قد أحال عمله الفني التمثيلي؛ إلى واقع حقيق، لتغرق (تانيا)، في ماء البحيرة؛ بعد أن تدحرجت بكرسيها المتحرك فوق الصخور العاتية؛ التي تنتهي إلى قلب البحيرة المترقرقة الأمواج .
إن الرواية تنتمي -فيما أزعم- إلى جنس أدب الصمت والسكون"؛ الذي يمرر الفجيعة، والوحشية، والجريمة، وقسوة الإنسانية، والقتل؛ والدماء، رغم وجود الحب والحنان والحرية، وشاطىء البحيرة الجميل.
وأدب الصمت والسكون؛ هو نوع من الأدب العالمي، الذي رأيناه في أوروبا، وفي أمريكا اللاتينية، وفي بعض قارات العالم.
ولعل الفوضى التي كان يعيشها سكان هذا المكان، هي فوضى ركنت إليها، "ما بعد الحداثة"؛ عبر متناقضات تقدم المشهد الإنساني المخاتل، والمتناقض، على أطباق الدماء والرعب، والخوف، بجانب القلق النفسي، وعدم الاتزان، مثل ما شاهدنا عبر شخصية "العم زكريا"؛ الأبكم،الأصم؛ والعاطفي؛ مرهف الحس؛ والساخط؛ والمفزوع، والقلق، وصاحب القلب الرحيم والوحشي معا.
إنها التناقضات في أدب "ما بعد الحداثة"؛ التي تجمعها فلسفة الرواية العالمية،الكونية، والتي هي - كما أرى- تجمع بين متناقضات : "أدب السكون والصمت"، و"أدب الضجيج والرعب"، و"أدب الفضيلة والحب"؛ والجمال؛ عبر الطبيعة الخلابة، والهدوء والأسرار؛ التي تختفي خلف القبو ؛والكابينة، والجبل، والبحيرة؛ والقبور الثلاثة، الوحيدة هناك، كذلك.
تقدم لنا سحر الرشيد "نوفيلا الرعب"، و"رواية المخاتلة"؛ فنراها عبر "ثيمات الرواية"؛ الما بعد- حداثية، تقدم لنا تناقضات الذات الإنسانية، وعالم الأسرار الذي يخفيه العم زكريا-رغم تظاهر بالختل، فكيف لمختول أن يقود السيارة عبر جبال الثلج عندما علم بأن "إبراهيم"، قد أصيب في حادثة، وقاد السيارة بدلا من "سالي" زوجة إبراهيم الثانية، مدربة "اليوغا"الجميلة؟!
إنها رواية مأزومة، تقدم الرعب والطمأنينة معا، والجمال والقبح الإنساني من حنو وحب وحنان، وقتل وانتحار، وصخب؛ طوال الوقت.
إن رواية " الحقيقة البكماء"؛ هي رواية سيكولوجية، تؤطر "لأدب الجريمة"؛ حيث الدماء، والندم، ثم القتل، والانتحار، لأبطال الرواية. كما تأتي رمزية وجود "الغراب"؛ في المكان، دالة، ورمزية تشير إلى الموت، وربما تحيلنا عبر المماثلة، والتناصات السياقية، إلى قصة " قابيل وهابيل"، ولدي "آدم وحواء"؛ وكأنها استطاعت عبر "تماثل الأسطورة"؛ أن تحيلنا إلى جذور التاريخ البشري، والقتل، والدماء، ويجيء الغراب ليرشد بنى آدم إلى الدفن بعد الموت.
تعيد الروائية سحر الرشيد تشكيل الأسطورة، وتصنع لنا "أسطورة فتاة اليوغا بين الجبل والبحيرة"، أو أسطورة (تينا) الفتاة البريئة ذات الشعر الأصفر الطويل الذهبي، وهي في ثوب العرس الأبيض الملطخ بالدماء. كما ترسم الكاتبة مشاهد الرواية باقتدار، كأننا أمام لوحات عالمية جميلة "لفتاة الثلج"، ولعالم الجبل والبحيرة، وشبح تينا الذي يظهر لهم في الحجرة، والقرب من أماكن الاستحمام، وفي الغرفة السرية؛ التي تخفي أسرار الجزيرة، وثياب "تينا"، الممزقة إلى قطع صغيرة، والمصبوغة بالطلاء الأحمر، الذي يقوم بتلوينه العم زكريا، ويظل يمسك بالقطع من الثياب التي تحمل بين نسيجها ذكريات القتل، والدماء المتناثرة.
إن هذا الواقع العجائبي للأحداث،أو "سينوغرافيا المشاهد السينمائية"، المرعبة، قد أحال النوفيلا إلى أسطورة صنعتها /سحر الرشيد وكأننا أمام "أساطير بابل"،أو "أسطورة حياة الإنسان على الأرض منذ عهد " آدم وحواء"، حتى الآن!
إن الكاتبة هنا تستخدم تقنية "الفلاش باك"، وسينوغرافيا السرد السيمولوجي العميق، عبر تسارعية المشاهد، والمواقف التداولية، التي لا تترك للقارئ فرصة لالتقاط أنفاسه، أو مشاركتها "لعبة التخييل والتأويل"؛ لأنها أدخلته إلى قلب الأحداث، ليعيشها، عبر سينوغرافيا السرد السيميائي المدهش، وعبر تتابعية وانتقال المشاهد، وعبر "تتابع الحبكات"؛ التي تنقله -طوال الوقت-إلى عالم الدهشة المروعة، وكأننا أمام "مسرح الطبيعة"، السينما الرعب والجنون والمخاتلة"؛ عبر عزف البيانو، وكونشيرتو الجمال الفطري الممتد، عبر سيمفونية الأسطورة التي تجيد عزفها التراجيدي، بينما يكرهها "العم زكريا"؛ كي لا تذكره بالماضي، وبموت "تينا"، ابنته، أو قتله لها؛- بحسب شكوك إبراهيم ابن عمها، وزوجها كذلك.
إنها "رواية نفسية"-كذلك-، وقد دلل على ذلك حالة "العم زكريا"، بعد موتها، حيث أصيب بصدمة عصبية، أو لوثة ذهنية، نفسية أحالته إلى أصم وأبكم، وغير متزن نفسيا، وسلوكيا، وعاطفيا، فغدا "أبكم"؛ لا يستطيع نطق الحقيقة؛ مثل عنوان الرواية : "الحقيقة البكماء".
تبدأ الرواية؛ -وتنتهي كذلك- بقبر رجل عجوز، وقبر فتاة، وشاب، بجانب البحيرة النائية، التي يتخللها فنار مهجور، تسكنه الخفافيش، وتحلق فوقه الغربان، التى تدل على الموت، رغم إطلالة المكان على مشاهد الجمال عبر الجبل، وماء البحيرة والأشجار والكابينة -المنزل- الوحيدة التي يمتلكها العم زكريا، والتي أهداها إلى ابنته لتتزوج بابن عمها إبراهيم، وبموت زوجته آلت ملكية الكابينة - بحسب القوانين هناك- إلى الزوج ، لكن عاش العم زكريا مع إبراهيم في هذا المكان النائي، المخيف، والساحر أيضا، ليتذكرا معا (تينا)، التي سقطت من فوق الصخور بكرسيها المتحرك داخل البحيرة الصاخبة.
وتظهر شخصية البطلة "سالي"؛ "مدربة اليوغا" ؛ في المشهد بحبها للهدوء، وممارسه اليوغا في هذا المكان البديع لتبدأ الرواية عملها السيسيولوجي، السيميائي، عبر السرد المخاتل؛ وأحداث أسطورية عجيبة، غير متوقعة، ليعجب بها إبراهيم ويتزوجها، بعد ذلك، لتنتقل "سالي"، من حياة المدينة، إلى حياة الجبل؛ والبحيرة، والرعب، والخوف من تصدع جبال الجليد والجمال الفطري في الصباح الذهبي المشرق هناك.
وعلى الرغم من أن الرواية لم تحدد مكانا، ولا زمانا بعينه، لمسيرة تنامي الأحداث، ورغم تركها النهايه تخييلية، أو لتشاركية القارئ، ليتخيل نهاية تقارنية مفجعة لمشهد مقتل العم زكريا ووجود الوحوش تنهش من جسده، ووجود إبراهيم مقتولا، أو منتحرا بعد أن تدحرج مثل زوجته على كرسيه المتحرك ، بعد أن أصيب بالشلل بعد الحادث الذي تعرض له من قبل، وتطلب الكاتبة النهاية مفتوحة عبر براعة التساؤلات عمن قتل العم زكريا؟ وهل إبراهيم قتله، ثم انتحر، أم أن العم زكريا هو الذي رمي بإبراهيم من فوق الجبل، فتدحرج نحو البحيرة ليموت مقتولا، ثم ترك نفسه للوحوش لتنهش جسده وتفترسه كذلك؟!
إن هذه النهاية التراجيدية المأساوية المفجعه تحيل الخطاب الروائي إلى مشاهد إدهاشية مفزعة، إلى جانب رعب سالي زوجته الثانية، من هول هذه المشاهد، إلى جانب ظهور شبح تينا وكأنها إحدى جنيات الماء التي ظلت تطاردها منذ أول ظهور لها في هذا المكان، لتسألها عن سبب مجيئها هنا، أو كما تقول: ما سبب مجيء هذه المرأة الغريبة من المدينة، لتعيش هنا في المكان النائي، وتتزوج زوجها الأول ابراهيمد؟!
إنها لعنة البحيرة، أم قسوة الجبل؟ أم قسوة الإنسانية، التي تحيل سكان هذا المكان البديع إلى وحوش، وقتلة، أو أشباح قاتلة، رغم تحليهم بكل القيم الإنسانية الجميلة، والمتناقضة، من حب إلى رأفة، وحنو ، وحساسية مفرطة نحو الجمال؟!
أسئلة كثيرة تستدعيها الرواية، ثم ما الحقيقة البكماء السرية التي لم تستطع الكلام، لتفسر لنا الحكاية، والأحداث، وتسقط كل ذلك على الواقع؟
ماذا تريد أن تقول الرواية إذن، وما الذي تهدف إليه؟ وهل تؤسس لإبداع عربي، عالمي جديد ؛عبر المكان والزمان؛ لتمرير الفحش والقتل؛ والتناقض، رغم جمال الحياة، والمكان، ورغم قسوة الحياة، ومأساتها كذلك؟ وهل تؤسس سحر الرشيد رواية تجديدية، ما بعد حداثية؟ أو إلى حداثة تستدعي من خلالها كل مقومات البنى السردية والخطابات التداولية والدراماتيكية المتلاحقة للأحداث؛ لتعيد النظر في بنية السرد الروائي العربي، وتجدد ثوبه من جديد؟ أم أنها إحدى روايات الرعب، التي تستدعي إليها الميثولوجيا لتحيلنا الى أهمية الأسطورة من جديد.
في النهاية : يظل الجبل، والبحيرة، وأسرار القبور، والعالم السري؛ للمكان النائي، والأماكن المعزولة عن السكان، لها أسئلتها المشروعة، التي استدعتها مسيرة السرد الروائي هنا، فلم يعد التمهيد عاملا رئيسا لانتقال الأحداث، ولم يشعر القارئ بفجوة، عبر هذه المشاهد المتلاحقة. كما أن الكاتبة تمزج السرد هنا بتقنية الشعر، عبر واصفات السرد الشعري، واللغة الشاعرة، إنها رواية تجديدية بامتياز، وقد استطاعت الكاتبة سحر الرشيد - كما أرى- أن تجدد الثوب الروائي العربي، وتمكيجه بمسحة أوروبية غربية، لنقف أمام رواية عالمية، تمزج الأصالة بالمعاصرة، وما هو عربي، بما هو أوروبي. وهي رواية عابرة للأجناس الأدبية، التي تصهرها معا،عبر مسيرة الأحداث- في النهاية، لتظل المبدعة سحر الرشيد إحدى الروائيات العربيات، التي ينشدن التجديد في مسيرة السرد الروائي. حيث تسعى إلى التميز، والفرادة، وارتياد أماكن جديدة، عبر الموضوعات التي أفردت لها مساحة كبيرة هنا. إننى -ولا غرو- أرى أن هذه الرواية من أجمل الروايات العربية، في العصر الحديث.
وتظل العراقية سحر الرشيد واحدة ممن ينشدن التجريب، وجدير بأن يكتب اسمها من بين أهم الكاتبات العربيات العرب. بل إن روايتها هذه تستحق الترجمة، لتكون في معية الروايات العالمية.
|