القاهرة 30 يوليو 2024 الساعة 10:44 ص
بقلم: د. هبة الهواري
يعتبر الفنان محسن أبو العزم نموذجاً فذاً للفنان المرتبط بمجتمعه و المتأثر بروح ثقافته وشخصيته القومية في كل أعماله، وقد قدم في ملتقى الأقصر الدولي لفن التصوير في دورته الثانية عشرة عملين ينتميان للبيئة المصرية في صعيد مصر وفي الحارة المصرية الشعبية، ويقصد بروح المجتمع: تلك الروح المميزة لثقافة معينة وهو النسق القيمي value–system الذي يحدد ماهية الثقافة ، وهو كذلك النمط الثقافي القائم على أساس النسق القيمي، والخصائص الروحية التي تتضح في الاتجاهات والقيم والميول العاطفية التي تميز أفراد ثقافة معينة، وتجعل من هذه الثقافة شيئاً متفرداً، وهو "مجموع السمات المميزة التي تنفرد بها الجماعة وتتميز بمقتضاها عن الجماعات الأخرى "
تلك الذاكرة الفوتوغرافية التي تميز الفنان محسن أبو العزم والتي ساعدت في تخليد الصور المصرية المرتبطة بالتقاليد في البيوت والحارات حفلات الزفاف والسبوع والموالد والأسواق والحرف التقليدية والحقول ، دراسات وتأملات متعمقة في أصل وجذور المكان والزمان، فحص وجمع للمعلومات والدراسات لكل التفاصيل التي تفيد في بناء العمل التصويري بشكل قوي، التفاصيل المعمارية والطبيعة الصامتة والملابس المميزة للطبقات الاجتماعية المتوسطة، الحلي والحركات المميزة للغة الجسد و كيفية التعبير عنها تشريحياً، الملامح الأنثوية المتفجرة والذكورية الفجة، استحضار الشخصيات من ينابيعها المترسخة في الوجدان، تلك الشخصيات التي نراها في عالم نجيب محفوظ الروائي والمشاهد السينمائية في الأعمال الخالدة للسينما الواقعية المصرية مثل سينما صلاح أبو سيف وهنري بركات و يوسف شاهين أفكاره وتفاصيله التي يحرص على جمعها بصبرٍ ودأب مدهش الدراسات التشريحية للحيوانات المنتشرة في البيئة المصرية التي تسكن لوحاته، عمليات من التوثيق الإبداعي للحياة اليومية للمصريين والتي ربما تكون معرضة للاندثار في أيامنا هذه.
كما يقدم الفنان محسن أبو العزم كذلك فكرة المعارضة أو المقاربة مع بعض الأعمال التشكيلية الشهيرة في فن التصوير مثل لوحته التي عارض فيها لوحة عربة الدرجة الثالثة لدومييه، أو نسخته الفريدة من وجهة نظره للوحة بنات بحري لمحمود سعيد، وبائع العرقسوس، وأحد المكونات الأساسية للنشاط الإبداعي فى مجال الفن كما ذكر شاكر عبد الحميد :هو العلاقة بين الفنان وبيئته، وفن التصوير هو عملية مستمرة للتمثيل والانعكاس تتم من خلال الحصول على كمية كبيرة من المعلومات من البيئة، وهذه المعلومات من خلال امتزاجها بالذات المبدعة تتم صياغتها فى أشكال فنية جديدة، والفن هو محاولة لتوصيل نسق القيم الداخلية للرؤية الخاصة بالفنان إلى المشاهدين أو الآخرين أملا فى تحقيق نسق لقيم أخرى، وتغيير النسق القيمى لديهم.ويستخدم الفنان محسن أبو العزم ألوان الأكريليك في أعماله التصويرية في أغلب الأحيان، وهو في لوحته التي شارك بها في ملتقى الأقصر هذا العام يقدم ملمحاً ذكياً من الملامح المميزة لمدينة الأقصر والصعيد المصري أيضاً وهو شخصية عازف الربابة أو الطنبورة الذي يجلس في المقاهي الشعبية ويروي مقاطع من السيرة الهلالية والمديح النبوي و ما إلى ذلك ، مستخدماً عناصر من الخشب الخرط المصنوعة منه الأريكة (الدكة) الخشبية المغطاة بالكليم الشعبي ، وتقابله منضدة خشبية يغطيها طبق من النحاس المشغول، وإلى جوارها على الأرض يصور الفنان قلة من الفخار المغطاة بالنحاس، وفي خلفية العازف المبتسم، نرى قطعاً مستطيلة منسدلة بشكل تلقائي من قماش الخيامية الملونة ، واستخدام تلك العناصر والحرص على كل تلك التفاصيل الدقيقة يمنح العمل قوته التعبيرية وحضوره المهيمن على وعي المتلقي، وقد استخدم "أرنهايم" مصطلح التعبير فى معناه الواسع، معتقداً أن التعبيرات البصرية تكمن فى أي موضوع أو أي واقعة إدراكية، وتظهر باعتبارها قوى دينامية نشطة، فالتعبيرات لا توجد فقط لدى الكائنات الحية، أو العاقلة بل أيضا فى الأشياء غير الحية كالأحجار والسحب، والجبال والنافورات والحيوانات والصخور والنيران وغيرها. والتعبيرات تدركها العين على نحو مباشر، لأنها تتجلي من خلال خصائص أولية كالشكل واللون والحركة. إن أي شيء فى الحياة يمكن أن يكون حاملا للتعبير كما تشير نظرية الجشطلت، كتلك العناصر التي يستقيها محسن أبو العزم من البيئة الشعبية المصرية، كما في لوحته الثانية لتلك المرأة التي تنخرط في طقسة البخور لمقاومة الحسد.
هذا ما قصد إليه الدكتور مصطفى سويف عندما أشار إلى الصراع بين الفنان والمجتمع الذى ينتهي بالتواصل عن طريق خلق عمل فنى جديد يتصل بالعناصر الثقافية التى تناسقت مع نسيج المجتمع والعناصر الأخرى التى ثار عليها وخلع عنها ثوب القداسة؛"فالإبداع هو عملية تفاعلية قوامها الاحتكاك النشط الإيجابي بين الفرد والجماعة. وقد أكدت على هذا دراسات سابقة عن العملية الإبداعية التى يقوم بها المبدع بعد انتهاء عمله تم اعتبارها "محاولة لبناء النحن" أو هى محاولة لرأب الصدع الناشئ عن الصراع الناجم عن تصدع النحن فتبرز لدى الشخص الحاجة إلى النحن التى تدفعه إلى السلوك المؤدى للإبداع… وما يدفع المبدع إلى حركته هو قوة الحاجة إلى هذه "النحن".
فهذا الارتباط بالتراث الشعبي الثقافي والتشكيلي المصري، لدى الفنان محسن أبو العزم ظل هو اليقين الدائم لديه في رحلته الإبداعيةنحو التوحد مع روح الثقافة المصرية، ذلك اليقين الذي ظل مخلصاً له وكما تشير مصطلحات علم الاجتماع أن لكل جماعة بشرية خاصية جماعية، أو نمط أساسي لشخصية الجماعة، وهو مرتبط أيضا بأشكال وطرائق الفكر التي تميز الجماعة. ويقول كروبر "إن للثقافة مظاهرها الخارجية وأشكالها المدركة، وكل ما يرتبط بها مما يمكن وصفه بطريقة واضحة، وبعبارة أخرى لها المحتوى الثقافي الذي يميزها كما أن لها نظام المثل والقيم التي تسيطر عليها ومن ثم تنزع إلى أن تتحكم في نمط سلوك الأفراد. فالفنان المصري على مر العصور قد تشبع بمختلف القيم الدينية والحضارية كما تعرض لعمليات مختلفة من التبادل الثقافي والتأثر الحضاري نتيجة للغزو والاستعمار وغيرهما،دون أن يفقد هويته الثقافية، بل طبع تلك العناصر الجديدة بطابع مصري خالص.
|