القاهرة 30 يوليو 2024 الساعة 10:43 ص
بقلم: د.هويدا صالح
"الأفكار تدور في كل رأس، لكن الأماكن في دماء أهلها". هكذا تشكل وعي عادل إسماعيل بطل رواية" الإيبس طائر الأشمونين المضيء" للروائي سفيان صلاح هلال والتي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، حيث انتقل عادل العالم في الكيمياء الحربية من مصر إلى أمريكا؛ ليعمل في أبحاث نووية، لكنه كان مسكونا بهاجس أن يستغل أحد أبحاثه ليحدث ضررا في العالم من ناحية ومسكونا أيضا بالمكان الذي شكّل هويته ولم يغادره رغم انتقاله من العالم الثالث إلى العالم الأول، وهذا كان تصورا طوباويا للأماكن، فهي تعيش داخل دماء أهلها مهما انتقلوا بها في الزمان والمكان، يقول متحدثا عن قريته :" رغم ذهابي عن القرية وانقطاع أخبارها عني طويلا، لم تفارقني قط/ حتى أنني لم أمسكني كرة في حلم خارج أفلاكها، كل أحداث أحلامي ورؤاي لم تبرح بيت أبي فوق التلة الترابية ومحيط حياة سكانها".
يبدأ السرد بأن يقرر عادل هو وزوجته هويدا، التي تشاركه أحلامه وأفكاره، العودة إلى مسقط رأسه حتى ينال هو وزوجته رضاء أمه، ومنذ أن اتخذ قرار العودة ووافقته الزوجة عليه حتى بدأت الذاكرة تحضر قويا، يعود بالذاكرة إلى زمان كان فيه صبيا ومكان أحب كل تفصيلة فيه، لنتعرف على التاريخ الاجتماعي لقرية الأشمونين مسقط رأسه، نتعرف على أهلها ، كيف كانوا يعيشون في زمن ماض وكيف يعيشون اليوم، بل يمتد زمان العودة بالذاكرة إلى الأشمونين في مصر القديمة حيث الإله تحوتي إله الحكمة وتاريخ البلدة قديما "لحظات وانشغلت هي بالطريق، وغمرتني سيول الماضي من قصص وحكايات شاهدتها، وسمعتها، وكنت شريكا في بعض موجاتها، ربما حضّرها لي عقلي الباطن من ملفات الذاكرة لشعوره برغبتي في مواجهة المستقبل، حتى أن بعض المشاهد كانت تحضر بأشخاصها وكأن رأسي صار شاشة عرض!".
لم يكتف الكاتب بأن يحكي لنا سردية عادل إسماعيل وأسرته وعمه المرسي، بل حكى لنا سردية أهل القرية، مسلميها بمسيحييها، أسرة العم لبيب المسيحية وتلك العلاقات البسيطة والإنسانية بين السارد الرئيسي وبقية الشخصيات، وذلك التسامح الذي كان موجودا في زمن ما قبل التنامي المخيف للمد الأصولي الذي وصف المصريين القدماء بأنهم كفار يعبدون أوثانا ووصف المسيحيين وهم مكون ثقافي رئيسي في مصر بأنهم أهل ذمة. يستدعي الكاتب مشهد "الزفة" الذي أقيم للعم لبيب حينما خرج من عقيدته المسيحية ودخل عقيدة المسلمين، وحين يسأل السارد الذي كان طفلا صغيرا متعجبا عن أسباب هذا الاحتفال المهيب يقال له إن الله أخرجه من الظلمات إلى النور، وكأن عقيدته الأولى ظلمات، لا غرو وهي عقيدة هامشية مقارنة بالعقيدة المركزية(النور)، يقول:" ـ هل العم لبيب سيتزوج، ويترك خالتي تينا وأولادها؟
ـ ربما يهديهم الله ولا يتفرق جمعهم.
ـ لماذا هذه الزفة إذن؟
ـ لأنه رأى وأخرجه الله من الظلمات إلى النور".
وعبر تقنية تعدد الأصوات يمنح الكاتب فرصة السرد للخالة تينا، لتسمعنا جزءا من الحكاية توقف عن ذكره السارد الرئيسي، تحكي لنا الخالة تينا كيف استقبلت خبر دخول لبيب الإسلام، بل تمضي في السرد، لتحكي لنا علاقتها الشائكة به، وكأن الحكاية هي قطع بازل متعددة، يمكن لكل سارد أن يضع القطعة التي تخصه في المربع السردي" فليذهب لبيب إلى دين آخر، هذا لا يهمني بتاتا، أنا تعبت معه".
قسم الكاتب السرد بالتناوب بين صوت عادل وصوت الخالة تينا، عادل يقوم بسرد تفاصيل حكايات العم المرسي وكمال الذي يحكي تاريخ البلدة، ويُخبر عن تصوره لماذا بنيت على تبة مرتفعة منذ عهد المصريين القدماء وكيف أن هذا الارتفاع إنما كان لحماية كهنة تحوتي باعتبارهم يحملون حكمة رب العلم والحكمة والكتابة، ورأي العم المرسي في هذا الطرح وخوفه على كمال من لصوص الآثار، ثم يتناوب السرد صوت تينا لتكمل حكايتها مع العم لبيب وكيف اختارته واختارها وتم الزواج وأنجبت منه البنين والبنات قبل أن يغير دينه، وهكذا.
التعالق النصي
يفيد كتاب السرد المعاصر من التعالقات النصية في الفضاء الروائي، فلم يعد الروائي يراهن فقط على سرد الحكاية في حبكة درامية فقط، بل صار يراهن على التشكيل الجمالي وما يحققه من متعة جمالية للقارئ من ناحية والتفاعل النصي الذي يمكنه من أن يرفد نصه الروائي بروافد معرفية متعددة وخطابات ثقافية كثيرة، تحضر جميعها عبر التناص بمحمولاتها وظلالها الثقافية حتى يحقق القارئ المتعة الجمالية والمعرفة التي تثير ذهنه وتدفعه للتأمل. وهذه النصوص المتفاعلة وهذا الجدل بين النص الغائب والنص الماثل يثري النص ويحقق له ميزة تختلف حقا عن النص الكلاسيكي الذي يراهن على الحكاية فقط. ولعل هذا ما منح رواية سفيان صلاح هلال ميزة مختلفة، فثمة روافد معرفية متفاعلة في الفضاء النصي ما بين التاريخ المصري القديم والدين والميثولوجيا والتصوف والمعارف الحديثة. فعبر لغة مشهدية يمكن أن نقرأ سردية التصوف وهي تخاطب القارئ عبر الصوت السردي الرئيس، حيث يقول:" أبصرت الحضرة ساخنة، فقد جاء الشيخ نوّار ومعه الشيخ عبد المغني.. ما إن دخل بين الصفين بخطوة طويلة واحدة وانحنى راكعا فاتحا ذراعيه، ثم قام ببطء، وهو يخبط كفيه ببعضهما، صائحا حي،ـ صاعدا بالحاء ومشددا الياء ـ حتى صرخ الجميع في جلبة هستيرية "هو"...على سلم الوجد بدأ الذكر في ارتقاء الدرج صاعدا حتى لامست الأرواح السماء، فاشتعل الهيام، ومن سرعة الحركة وتعدد جهات الميل والاعتدال؛ سقط الشال الأبيض من على رأس الشيخ؛ وانفرد على كميّ جلبابه الأسود وكتفيه، وانفرد شعره الطويل على ظهره وعلى لحيته السوداء الكثة...اتسعت مساحة النسيم، بدأ أفراد الذكر يترنم بنشيد تراثي خاص بالمتصوفة، وآخر يرد عليه، وثالث يذوب في الكلمات فيهيج ويصرخ : المدد المدد الماددداد".
ولا يكتفي الكاتب بتصوير علاقة المسلمين بالسردية الصوفية وكيف كانت في زمن ما تمثل رؤية متسعة ومنفتحة للدين وصارت بعد تنامي المد الأصولي إلحادا وخروجا عن صحيح الدين، فوالد السارد على عكس عمه المرسي، والد السارد يرى التصوف تجديفا عن الدين الصحيح، فيغضب كلما رآه يدخل في حضرة ذكر صوفية، بل يعاقبه بشدة "مضيت أنا من القرية خوف جهنم التي تطفح من عينيّ رجل لا يتفاوض في مسلماته".
تجليات التراث الشعبي في النص
أفلح الكاتب في توظيف موتيفات التراث الشعبي، وعي الجماعة الشعبية في تعاملها مع تفاصيل حياتها اليومية من طقوس الدفن والموت والحياة، الموالد والأضرحة والأولياء. ارتحال عادات المصريين القدماء وتفاصيلهم من مصر القديمة إلى مصر الحديثة، وكأن الهوية المصرية نهر يسير تحت النهر، ولعل هذا الوعي الشعبي الذي يمارس تفاصيل الحياة، لا فرق كثيرا بين مصري قديم يعيش في رحاب الإله تحوتي إله الحكمة ولا مصري حديث يتخصص في الكيمياء النووية، إنها الهوية المصرية التي تتجلى في تلك الموتيفات الشعبية. وهذه الرواية وغيرها من رواية تعبر عن الهوية الثقافية للشخصية المصرية ربما فيها رد حاسم وجازم على دعوات أصحاب الحركات الأيديولوجية التي تسعى لسرقة التاريخ المصري القديم ونسبه لأجدادها مثل جماعة الأفروسنتريك التي أثارت الجدل مؤخرا بتصريحاتها بأن الحضارة المصرية أقاموها الأفارقة، وأن المصريين القدماء كانوا أفارقة.
|