القاهرة 23 يوليو 2024 الساعة 10:38 ص
بقلم: سماح ممدوح حسن
فازت رواية "قناع بلون السماء"، للكاتب الفلسطيني باسم خندقجي الصادرة عن دار الآداب، بجائزة البوكر العربية 2024.
ورغم أن الرواية فرّت من بين يد الطغاة الأمر الذى يُعد فى حد ذاته فعل مقاومة، إلا إنها على العكس مما سيظن القارئ من اندراجها تحت أدب السجون، وسنتفاجأ بموضوعها المغاير، اتسع فيها مفهوم الشتات الفلسطيني ليشمل الشتات النفسي لإنسان عجز عن انتزاع مكان فى أرضه إلا بانتحال قناع عدوه.
بالرواية شق تاريخي ربما نحن بحاجة إلى المزيد منه، الشق الخاص بتوثيق تاريخ فلسطين الضارب فى القِدم، كأسماء الأماكن قبل الاحتلال وقبل الإبادة الصهيونية لفلسطين، حيث تدور أحداث النصف الأخير من الرواية فى القرية التاريخية "اللجون، مستوطنة مجدو". والشخصية التاريخية الفلسطنية "مريم المجدلية" التى عاشت هناك.
سيخوض القارئ مغامرة لكتابة رواية داخل الرواية، لكن عندما نصل لنهاية المغامرة سيحار فيما إذا كان بطل الرواية الأصلية "نور الشهدي" هو كاتب يسعى لكتابة رواية مريم المجدلية أم أنه مصاب بنوع من الفصام وشتات الهوية بعدما تقمص شخصية أور شابير، أور مرادف نور، وظن لفترة أنهما تماهيا فى شخص واحد!
تدور أحداث الرواية عن "نور" الشاب الفلسطيني الثلاثيني ابن أحد المخيمات الفلسطنية فى رام الله ممن تهجّرت عائلاتهم فى نكبة 1948. والذى أحيط بكثير من الأسباب الداعية لشتاته، كموت أمه يوم ميلاده، الصمت الحجري لأبيه الذى كان من أكبر شخصيات المقاومة الفلسطنية وقضى فى الاعتقال الإسرائيلي خمس سنوات وخرج بعد المعاهدة التى حطمت آماله، بالإضافة إلى صدمته من تخلي أصدقاء النضال عن أسرته فترة اعتقاله وخرج ليجد الجميع استفاد من المعاهدة، ومن حينها سُجن الأب فى زنزانة الصمت الأبدي الذى تسلل بدوره إلى نور الذى شعر من صغره بالغربة بسبب هذا الصمت، وملامحه الاوروبية التى تسببت فى إطلاق الألقاب عليه لكنها فيما بعد ستكون وسيلته للوصول لمرامه.
فُتن نور بشخصية مريم المجدلية. فسعى لكتابة سيرتها التاريخية وفشل فى مسعاه، فقرر تحويل العمل التاريخي إلى عمل روائي. لكنه حار فى الكيفية التى سيستمد بها المعلومات التى تتيح له الكتابة. وشرع فى خطة العمل وبدأ يسجل ما يخطر على باله من أفكار فى تسجيلات صوتية لصديقه المعتقل فى السجون الاسرائلية"مراد" رغم إدراكه أن مراد لن يسمعها يوما.
تواطأ القدر مع "نور" حين ساق له السبيل الذى به سيتوصل لحقيقة مجدليته التى وصل لها فى النهاية لكن بكيفية مغايرة تماما عن البداية. فلما كان نور، رغم ضيق ذات اليد، مولعا بالأناقة، وكان يشترى ملابسه من سوق الملابس الإسرائيلية المستعملة وفى أحد هذه القطع الفاخرة وجد ضالته. عثر على هوية إسرائيلية كانت بمثابة المفتاح الذى سيدخله إلى الأرض المحتلة، القدس، والمحرمة على سكان المخيمات مثله.
هوية أور شابير. لم تكن تلك الهوية فى البداية إلا وسيلة نور لولوج عالم مجدليته الغامضة والتى بها سيدخل إلى المناطق الأثرية التى احتلها الصهاينة وطمسوا معالمها، الأماكن التى تحكي تاريخها ويعتقد أنه سيعثر فيها على كنزها التى توارثته عائلة المُحب سمعان.
وللمرة الثانية يتواطأ القدر مع نور عندما استطاع بإمكانياته اللغوية والشكلية الالتحاق ببعثة أمريكية للتنقيب عن الآثار، بالتحديد عن آثار الفيلق الروماني السادس. البعثة التى حددت أماكن التنقيب تماما حيث يظن نور أن كنز المجدلية مدفون فيها.
رواية "قناع بلون السماء" هى رواية الصوت الواحد بامتياز. ف"نور الشهدي" والذى أيضا سيوحي لنا بانفصامه من كثرة حواراته الداخلية، كالتي بين نور وبين شخصية أور شابير. فكان نور هو الرواي والمُبلّغ السارد لكل الأفكار. أفكار نور وأور شابير، ومراد وحتى نسيم شاكر الشخصية الروائية التى لم تُكتب، وكانت مجرد اسم فى مسودة صوتية.
كما كان نور يتحاور مع شخصية أور، وصارا يتصارعان داخل رأسه حتى تاه كلاهما لبعض الوقت فيمن هو الأصل ومن هو المُنتحل من شدة انغماسهما فى هويات بعضهما لثلاث أعوام قضياها كشخص واحد. كان أيضا هناك صوت الضمير الذى انخرط معه نور فى حوارات من طرف واحد طوال الرواية وهو"مراد" صديق طفولة نور. فى البداية كان لمراد ملامح واضحة فى حكاية نور. فكان الصديق الذى لم يكف عن المقاومة حتى وهو فى المعتقل عن طريق التعلّم وإحراز التقدم العلمي.
ونفس فعل المقاومة بالعلم مارسه نور عندما تعلم بمهارة تامة ثلاث لغات أجنبية ومن بينهم لغة عدوه. مراد صديق نور المعتقل فى السجون الإسرائيلية والذى يوصّل نور أمه كل شهر لزيارته، وعن طريقها يستقبل منه الخطابات السرية ويرسل ردها داخل الكتب التى كان يدخلها والتى يخرجها الآخر. أما بقية الرواية فكان مراد كأور، مجرد صوت داخلي لكنه صوت الضمير لا صوت المنازع.
فمراد باعتباره ضمير، كان دائما ما يحث صاحبه على الكف عن الركض وراء تاريخ المجدلية التى لا مجال لها فى عالمهم الحالي، والالتفات أكثر إلى قضيتهم المُعاشة والبحث عن سبل للخروج من كارثة الاحتلال.
تسلط الرواية الضوء على عدة نقاط مهمة..
أولها: العنصرية التى تمارسها الدولة الإسرائيلية ضد المنضمين لها. ففى الأحداث رأينا كيف تحابي الدولة اليهود من أصول أوروبية، فتنزلهم فى أفضل المستوطنات، توظفهم فى أفضل الأعمال، حتى الخدمة العسكرية تمركزهم فى أماكن سهلة. وهذا جاء على لسان شخصية الفتاة اليهودية "أيالا" التى تمور حقدا وغضبا من هذا التميز الذى تمارسه الدولة ضدها وكل مَن هم من أصول غير أوروبية.
ثانيا: رأينا فى الرواية كيف يعزف الصهاينة نغمة الهولوكوست لكل العالم بينما هم على الأرض يمارسون محارق أضعاف المحارق التى ارتكبها هتلر بحق اليهود.
ثالثا: نقطة عبّرت عنها الفكرة الرئيسية فى الرواية. فكرة أن أكثر من سبعين عاما، على وجود الشعب الفلسطيني صاحب الأرض فى المكان نفسه مع المحتل، بالتأكيد اطلع كل منهم على الآخر بأفكاره وعاداته وتقاليده، ورغم الصراع الدائم إلا أننا كثيرا ما فكرنا فيما أخذ كل منهم من الآخر وما يهمنا هنا هم الفلسطينيون، هل تعايشوا، هل تبادلوا ثقافيا وفكريا مع محتلهم؟ هل بالتعلم فى نفس الجامعات والسكن فى نفس المدن جعلهم متقاربين؟ ربما حدث هذا عند البعض لكن على الأغلب وكما أفادت الرواية أنه فى النهاية مهما عاشوا معاّ فلن يتعايشوا.
رابعا: نقطة ربما هى مهمة جدا لمن لا يعرف شكل الحكم داخل فلسطين، نقطة وضحتها لنا شخصية سماء، التى عرفنا من خلالها أن حمل الفلسطينيين للجنسية الإسرائلية لا يعنى بيعهم لأرضهم أو التنازل عن حقهم فى المطالبة بعودتها. فهى الفتاة التى وشمت يدها باسم مدينتها وتاريخ تهجيرها منها"حيفا48"، كذلك عندما وقفت لتعرّف نفسها لم تقل من إسرائيل بل قالت من هنا، وركزت على تنوير أعضاء البعثة من الأجانب الأوروبين بحقيقة تاريخ بلادها فلسطين التى انتزعت وسرقت منهم بكذبة ومحض خرافة. وهو الأمر الذى يعلم الإسرائيليون حقيقته، مما دفع الفتاة الصهيونية أيالا لمهاجمة سماء أمام الجميع.
ربما لم يسوق القدر نور إلى هذه المغامرة وييسر الطريق أمامه إلا لأنه بحق يحضّر له مجدليته فى نهاية الرحلة، والتى بالفعل عثر عليها أخير.
"سماء إسماعيل" المجدلية وصاحبة الأرض. تعددت الجنسيات التى ضمتها بعثة التنقيب التى التحق بها نور. لكنه لم يلتفت إلا ل"سماء إسماعيل" الفلسطينية التى وقفت تعرّف نفسها وجنسيتها بكل صراحة وفخر. سماء الفلسطنية الواشمة على يدها أسم بلادها"حيفا 48". فتن بها نور. فهى على عكسه تماما. فبينما هو يخفي شخصيته وينتحل شخصية عدوه الصهيوني، تصدح هى بفلسطينيتها بل وتحدّث الجميع عن الإبادة والتهجير والشتات الذى ارتكبه الصهاينة فى حق شعبها ولم تخف العواقب.
|