القاهرة 23 يوليو 2024 الساعة 10:33 ص
بقلم: د. هويدا صالح
إن فعل قراءة الأدب هو عملية معقدة وديناميكية لا تشمل الكاتب فحسب، بل تشمل القارئ أيضًا. لقد كان دور القارئ في تفسير الأدب موضوعًا لنقاش حاد بين علماء الأدب. فبينما يجادل البعض بأن النص مستقل ولا يمكن فهمه إلا بمصطلحاته الخاصة، يرى آخرون أن تفسير القارئ لا يقل أهمية عن النص نفسه
ويتأثر تفسير القارئ للأدب بعدد من العوامل. وتشمل هذه العوامل التجارب الشخصية للقارئ ومعتقداته وخلفيته الثقافية. عندما يقرأ القارئ نصًا، فإنه يقدم تفسيره الخاص له، بناءً على تجاربه الخاصة وفهمه للعالم. وهذا يعني أنه يمكن تفسير نفس النص بطرق مختلفة من قبل قارئ مختلف.
إحدى النظريات الأكثر تأثيرًا في توضيح تلك العلاقة الشائكة بين القارئ والنص ومدى استجابته لمعطيات النص الثقافية هي نظرية "القارئ الضمني" للمفكر الألماني فولفجانج إيزر، حيث يرى أن النص يحتوي على فجوات أو "فراغات" يجب على القارئ أن يملؤها. هذه الفراغات ليست عشوائية ولكنها يتم إنشاؤها بواسطة النص نفسه. ودور القارئ هو ملء هذه الفراغات وإنشاء سرد متماسك من النص. كما يرى إيزر أن عملية التفسير هذه هي عملية نشطة وأن تفسير القارئ لا يقل أهمية عن النص نفسه.
نظرية أخرى مؤثرة في نظرية استجابة القارئ هي "المجتمعات التفسيرية" لستانلي فيش. جادل فيش بأن القراء ينتمون إلى المجتمعات التفسيرية، وهي مجموعات من الأشخاص الذين يتشاركون في معتقدات وقيم مماثلة. تؤثر هذه المجتمعات التفسيرية على الطريقة التي يفسر بها القراء النص. جادل فيش بأن القراء ليسوا أحرارًا في تفسير النص بأي طريقة يختارونها، بل تفسيرهم مقيد بمجتمعهم التفسيري.
وثمة نظرية أخرى مؤثرة في نظرية القارئ والاستجابة هي نظرية "المجتمعات التفسيرية" لستانلي فيش الذي جادل بأن القراء ينتمون إلى المجتمعات التفسيرية، وهي مجموعات من الأشخاص الذين يتشاركون في معتقدات وقيم مماثلة. تؤثر هذه المجتمعات التفسيرية على الطريقة التي يفسر بها القراء النص. الفقراء ـ بحسب فيشر ـ ليسوا أحرارًا في تفسير النص بأي طريقة يختارونها، بل تفسيرهم مقيد بمجتمعهم التفسيري.
ربما هذا ما دفع الروائي محمد بركة أن يشير في صدر روايته" عرش على الماء" التي صدرت عن دار أقلام عربية للنشر والتوزيع بالقاهرة إلى التخييل والبعد عن الإحالي والمرجعي؛ خوفا من تفسيرات القارئ لشخصية البطل ومطابقتها للواقع، فالشخصية/ البطل في الرواية داعية من أصول مصرية ريفية وصل إلى مكانة من الخطابة والوعظ والفتوى أن يمكن للقارئ أن يربطه بصورة ما تزال ماثلة في وعي الجماعة الشعبية المصرية، بل لها تأثيرها الذي لا يزال عميقا على تلك الجماعة الشعبية، إنها صورة الداعية ذي الأصول الريفية وموقفه من نكسة 1967 والابتعاث للخارج وجلسات الوعظ في المساجد والتمرد على الزي الأزهري واستخدام الخيال الشعبي في توضيح وشرح الكثير من المسائل الفقهية، وكأن العمل الأدبي صار رؤية إبداعية لصورة هذا الداعية الأشهر في تاريخ الجماعة الشعبية المصرية منذ ما يزيد عن خمسة عقود.
أدرك الكاتب دور القارئ الضمني في التفسير والإحالة إلى الواقع وتلبيس ما هو تخييلي صورة الواقعي المرجعي، فحرص على أن يؤكد أن "هذه الرواية عمل إبداعي بحت وأي تشابه بين شخصياتها أو أحداثها مع شخصيات أو أحداث في الواقع هو مجرد مصادفة".
التفاعلات النصية :
من أبرز جماليات نص" عرش على الماء" تلك التفاعلات النصية والنصوص الغائبة التي أتاحتها تقنية التناص للكاتب، بداية من لغة النصوص الدينية، القرآن والنصوص الصوفية، وليس نهاية بتلك المقولات الثقافية التي تحمل تاريخا معرفيا طويلا قارا في وعي الجماعة الشعبية، فالشخصية / البطل، بقدر ما سعى لأن يصير داعية ذائع الصيت منذ أن وعى معنى اسمه" مشهور" بقدر ما لم يتمكن من التخلي عن لذائذ الدنيا ورغائبها، وفي ذلك أفلح الكاتب في توظيف اللغة التراثية، لغة التراث الصوفي من ناحية، واللغة الشعرية من ناحية أخرى.
يفتتح الكاتب فصوله بابتهالات تصبح علامة نصية تمكن القارئ من فك شفرات النص، ففي الابتهال الأول نعرف أن الشيخ الإمام بقدر ما يخشى من "الذنب" بقدر ما يتوق إليه، فالذنب فرصة طيبة لأن يقترب أكثر من الإله، عبر طلب المغفرة، وبالدخول إلى النص نكتشف أن البطل يتم اختبار علاقته الشائكة بالإله وبالدنيا ورغائبها وخاصة لذائذ النساء اليانعات الباحثات عن التوبة، فيصير الابتهال كاشفا لما سيأتي في الفصل من سردية مفعمة بالرغبة والخوف منها، بالدنيا والتوق إلى التوبة، بالجسد المشتعل شهوة والروح التواقة للخلاص:" يا من جعلت الغيوم حجابك والسموات وردتك، أسألك أن تُنعم عليّ بذنب ِ يُبكيني حتى تبتل لحيتي، فقد حرمني دوام طاعتك من تذلل التائبين..."(ص9).
وحين تحصل الشخصية/ البطل على تلك الفرصة من الذنب بكل لذائذه، يصبح التذلل طلبا للتوبة هو نهاية الفصل: "أخلع عني العباءة ثم الطاقية التاريخية. أشمر كم الجلباب الحريري. تلوح صلعتي كفضيحة صغيرة. أدعوها للجلوس على الأرض. أناشدها أن تجعل البساط أحمديا. تستأذن لتغيب دقائق فأحذرها من أن الطعام سيبرد. تعود من الحمام بربع شعر مكشوف ونصف صدر عار، وغواية كاملة الأوصاف"(ص17).
ولأن الشيخ/ البطل يدرك أن داء قلبه النساء، فلا يتحرج أن يبتهل إلى الله أن يعينه على رغائب قلبه الذي لا يهدأ: "الابتهال الثاني: يا من جعلت الرعد همسك والبرق عصاك، أسألك بكل أدب وتوقير: لماذا خلقت قلبي شمعة واهنة تتقاذفها رياح النسوة؟"(ص19).
وهكذا يفيد من العتبات النصية، تصدير الفلوس بتلك الابتهالات التي تناص الكاتب فيها من لغة القرآن الكريم ولغة التصوف.
شعبوية الخطاب الديني:
يعمد الكاتب إلى كشف المسكوت عنه فيما يمكن تسميته بالدين الشعبي، وصناعة رجل الدين ومنحه تلك القدسية الفوقية التي ترفعه على مستوى البشر العاديين. فالشيخ الإمام كان يعرف جيدا كيف سيصل إلى قلوب العامة ويصدر لهم خطابا استقطابيا قادرا على سلب العامة وعيهم وصناعة وعي تديني زائف، يقول محمد بركة في محاكاة ساخرة :""أدركت مبكرًا أن للعِمة مع الجبة والقفطان تأثيرًا مذهلًا على المصريين، إذا أردتهم خاتمًا في إصبعك فارتدِ لهم هذا الزي المستعار من بلاد تركب الأفيال. لا تتعب نفسك في عمل شيء، فهم من سيتولون تنصيبك مندوب السماء لأهل الأرض. يكفي فقط أن تطلق لحية خفيفة ثم تغمض عينيك وأنت تمرِّر حبات المسبحة بين أصابعك فيأتونك زحفًا. جسدي نحيل وقلبي تصفِّر فيه الريح والأشواق. اقترح أبي تسميتي "مشهور" تيمنًا برؤية إمام مغمور في مسجد منسي: فراشة تعتلي منبر رسول الله وتخطب في المصلين يوم الجمعة. أثار الاسم قلق أمي، فقد رأت فيه ثغرة كبرى تتسلل منها عين الحسود"(ص30).
دلالة العنوان:
يتناص الكاتب في عنوان الرواية مع دلالة" عرش على الماء" بما لها من ظلال ثقافية، دينية وصوفية، لكن ذلك العرش الذي يريده الشيخ/ البطل هو عرش في الدنيا، لكنه يتمثل "عرش على الماء" في ظلالها الثقافية، في الفصل الأخير، وعبر المفتتح الابتهالي يكشف الكاتب عن تلك الدلالة الكلية التي سيّدها الكاتب في النص، يقول في الابتهال الأخير: "سبحانك.. لا تستحي أن تضرب مثلا ببعوضة وأستحي سؤالك أن تجعل لي عرشا في الدنيا على صورة عرشك العظيم.."(ص315).
|