القاهرة 16 يوليو 2024 الساعة 12:08 م
بقلم: سعيد نوح
كان لا بد من وجود الحكايات من أجل أن نرى الجميل قبيحا والقبيح جميلا؟ كان لا بد من الحكايا من أجل أن يصبح القاتل هو المظلوم والقتيل هو الجاني؟ ليصبح الحبيب عدوا، والعدو حبيبا؟ المقتول غائبا والقتيل موجودا في عين الشمس؟
في الحكايات دائما مادة ساحرة! تلك المادة يمكن تسريبها إلى العقول عن طريق الهواء، الذي يدعي في بعض الأوقات أن اسمه الخيال. كاذب دائما هو الهواء، وأبدا لا يستقر عليدى شيء، كما لا يمكن الإمساك به ـ حين ذلك تستعد تلك النفس وترتكن إلى الوجدانية التي هي أساس تواجدها! ولذلك يفهمها البليد، والذكي أيضا يهتم بها، السيد يركن إليه في سرد شرائعه وتعاليمه والمسود يدخل دائما أنفه في الحكاية، للجن الذي تأتيه الحكمة حين يستمع حكاية، وللداء ألف ألف حكاية وللشفاء حكايات صغيرة، الشر والخير هما دائما هناك داخل الحكاية، للاضطراب والتلعثم حكاية، للعثور على الكنز أو التخلص من الشيطان حكاية. لسمكة الصياد التي تباهى بها أمام أقرانه العائدين بلا أسماك حكاية! لسكون الليل حكاية، للأشجار التي تنحني في وئام حكاية، للجوع أو التشرد أو الموت حكاية، للعصفور حين حط فوق دغل التوتة التي تتوسط دار ست الدار الأكثرَ جمالاً في النساء حكاية.
لقطار الليل ألف ألف حكاية. هو لا بد من وجوده عند كل الكتاب، تماما كمجنون القرية ودرويشها، فأي قطار سوف يحدثنا عنه ذلك المبدع صاحب الرصيد الوافر من الأعمال الروائية المتميزة التي تناول فيها الجنوب بلغة مختلفة ورصد من زاوية محايدة وفي بعضها كان متورطا وليس منحازا فقط. كما أمتعنا ببعض الشخوص المنتشرة في بلاط صاحبة الجلالة. قصة "قطار الليل" قصة بطاقة رواية لو أراد خالد إسماعيل ذلك، لكنه آثر أن يضمنها مجموعته القصصية المدهشة "مقتل بخيتة" والتي نشرت قبل سنوات في دار ميريت للنشر والتوزيع.
وكما قلت آنفا قطار الليل ركبه معظم كتاب القصة منذ فجر تاريخها الأول ولهذا كنت متشوقا لمعرفة مصير بطل قطار ابن اسماعيل وفاجئني خالد بموت بطله مغازي عبد الرسول بعد النزول من القطار، وبالتحديد علي طريق طما وبتحديد التحديد ذاته قبالة جنينة الشيمي، ليس ذلك فحسب، بل قتله الحمار الطماوي الذي استأجره من محطة القطار ودفع له قرش صاغ نظير أن يحمله إلى بيته في عرب بخواج، كان عائدا من الإسكندرية وهو يكاد أن يطير من الفرح بعد أن استطاع بجهد جهيد أن يشتري نصيب حبشي مشرقي أحد ورثة مشرقي هرمينا النصراني ويحمل فوق قلبه العقد الموقع من الشيال بمصلحة السكة الحديد على ميراثه الذي هو عبارة عن خمسين ذراعا من الأرض بشهود هما طانبوس قرياقص وهو زوج أخت صاحب الخمسين ذراع وفهمي جرس. وفوق وركيه يستند على بطنه مقطف حبشي مشرقي وفيه سكر وعنب وصابون، أثناء الرحلة سأله الحَمَّار عن معرفته بالمدعو فتحي رشوان، وللحقيقة أن ذلك الفتحي لا يمت للبطل بأي صلة تذكر، لكن هذا الفتحي هو شيخ البلد ولديه عائلة كبيرة تمتلك زمام عرب بخواج، ولهذا ما إن سأل الحَمَّار حتى رد بطل النص بثقة : دا يبقي عمي لزم.
هو لم يكن يعرف أن الحَمَّار له ثأر لدى هذا الفتحي، هو فقط قال ذلك ربما للوجاهة أو للتمسح في شيخ البلد والسلطة والمال أراد الفشخرة به، ولم لا وهو راعي الغنم الذي ظل طوال عمره يمضي خلف بعض أغنام وماعز يرعاهم وأبد الدهر ظل يحرم على نفسه اللحمة أو الفاكهة ولم تُر زوجته أبدا وهي ترتدي في قدميها شيء. كل ذلك الجوع حتى يمكنه توسعة داره بإضافة دار النصراني إليها، لكن ما لم يعلمه مغازي عبد الرسول ذات نفسه، أن أبو الحَمَّار الحرامي الشهير قد قتل علي يد فتحي بعد أن أمسك به يسرق بقرة. إن مغازي عبد الرسول بطل النص وقد عاد في قطار الليل معبأ بكل أمنياته وكل أحلام امرأته في الصابون المعطر والعنب الغائب عن البلد لا شك وأقماع السكر أراد أن يمارس ملكيته للخمسين ذراع التي هي أرض مثل أرض كبير البلدة في عرف الحساب ، ولهذا أراد للمرة الأولى في حياته أن يكون ندا لهذا الغني العتيق وينحشر ضمن زمرته وقال ما قال دون معرفة بمصيره المحتم علي يد الحَمَّار الذي استل مطواه وجز رأسه. عرفت الحكاية عن بكرة أبيها لكل القاطنين للبلدة، وكعادة الأغنياء في لحظة الحسم، قاموا بتسويف القضية وقالو إنهم علي موعد لأخذ ثأره، أما الأبناء فقد تحملوا العبء كله حتى ضجوا بالمكان وساكنيه ولم يعد أمامهم غير الترحال إلى كفر الزيات للعمل في محالج القطن وبعد سنوات كثيرة يبيعون البيت لابن فتحي السبب المباشر في قتل أبيهم وعند ذلك تقول أخته إنها صارت اليوم يتيمة. هذه حكاية القطار الأخير وبطله فماذا عن البطلة الظل. تلك التي تتحمل كل مخلفات بطل النص. تلك الأخت وابنها السارد؟ هنا تكمن عين الكاتب الذي يحمل بصمته الخاصة في تاريخ السرد التسعيني بمنجزه الكبير، هنا نكتشف دلالات الأسماء التي اختصنا بها الكاتب طيلة مسيرته لتظهر تغيانة سلام، تلك الأرملة طويلة اللسان قصيرة القامة، تلك التي تقطن بالمنزل المجاور لبيت سيدة الظل، هي أرملة وحيدة لا تجد قوت يومها إلا من خلال لسانها السليط، ومنذ لحظة كشف اللثام عن مقتل مغازي عبد الرسول ووجدت ضالتها المنشودة في أخت القتيل، وما إن أمسكت بها وهي لم ترخها طوال أحداث النص منذ البداية وحتى النهاية حين ركب عزمي مغازي عبد الرسول من محطة طما في قطار الليل نفسه.هنا يتشكل عالم القرية ونتعرف على الحد القبلي والبحري للبيوت الطين، هنا يظهر ابو الراوي للمرة الأولى ويكلفه أن يكتب أقصر جواب في القصة القصيرة: نعرفك يا أخ عزمي أن موضوع بيع بيت المرحوم مغازي واعر ع النفس ،لكن ما بليد حيلة، والعين بصيرة والإيد قصيرة، بيعوا للي فلوسه حاضرة. هكذا يكون ظهور الشخصية وخروجها في ذات اللحظة.تماما كمقطف حبشي مشرقي الذي ظهر في النص ولم يظهر صاحبه هي إذن رحلة طويلة قطعها قطار الليل ليكشف لنا أناسًا لم نلتق بهم ولم نكن لنلتقي بهم لولا المبدع خالد إسماعيل.
|