القاهرة 16 يوليو 2024 الساعة 11:56 ص
بقلم: د. هويدا صالح
هل يمكن أن يكون "الخواجة" مصريا؟! هل تمّ سرد حكايات الأجانب (الخواجات) الذين قدموا على مصر في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في كتب بحثية أو أعمال أدبية؟ هل تم رصد دورهم في بناء القاهرة الخديوية ودورهم في اكتشاف الآثار المصرية، فرعونية، وقبطية وإسلامية والمحافظة عليها؟ هل تمّ رصد هيمنة النفوذ الأجنبي في بلاط ولاة مصر وحكمها إبان القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، حتى قيام ثورة عام 1952؟ إن كتاب "الخواجة مصري" للباحث أحمد الفران، هو الذي يمكن أن يجيب عن هذه التساؤلات جميعها.
إنه كتاب يصف حال مصر بدءا من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، حيث كانت مصر مسرحا كبيرا لمختلف جنسيات العالم، لعبوا على خشبته وخلف كواليسه كل الأدوار في حياة المصريين، مستظلين بالامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة التي وفرت لهم الحماية المطلقة، فانتشروا في كل شبر من أرض مصر، حتى التحموا بنسيج المجتمع، بل إن الوالي نفسه كان أجنبيا وحاشيته خليط من مختلف جنسيات العالم، مرورا بموظفي الحكومة المصرية إلى المرابين وأصحاب الحوانيت والمصانع والشركات والمغامرين والمستكشفين، حتى أصبح الخواجة هو المسيطر على حقوق المصريين في أوطانهم.
الخواجة مصري هو صورة التاريخ البشري التي تجمع بين الخير والشر، صورة الإنسان الطبيعية والتي تحمل في طياتها كل مفردات التناقض، هو التجربة الإنسانية بحركاتها واستمرارها، لتصل بنا إلى حقيقة واحدة هي أن الجماعة الإنسانية لن تتوقف عن التغير المستمر، وأن الحقيقة الوحيدة الثابتة هي أن كل شيء خاضع للتغيير.
قسّم الكاتب الكتاب إلى تمهيد قام فيه الباحث بسرد تاريخي عن وجود بعض الشخصيات الأجنبية التي أثّرت في مصر وأثرت الحياة فيها، وقام الباحث باستجلاء تاريخ هذه الشخصيات في بلادها وقبل مجيئها إلى مصر، ثم دورها في الحياة السياسية وعلاقتها ببعض الحكام المصريين، بل دورها في بناء المتاحف والمعمار الذي ميزها.
ثم اختار بعضا من هذه الشخصيات التي كان لها هذا الدور التاريخي في مصر؛ لكي يكتب تفاصيل حياتها وقصصها.
بدأ الكاتب بعرض حياة "يوليوس فرانز" الذي حفظ نفائس التراث الإسلامي، حيث قدم من ألمانيا إلى القاهرة لبدء رحلة علاجه لدى الطبيب الألماني الشهير تيودور بلهارس الذي كان مقيما في مصر بعد اكتشاف علاج دودة" البلهارسيا" التي مصت دماء المصريين فترات طويلة، وسميت هذه الدودة باسمه.
قدم فرانز للعلاج، فانبهر بالنهضة الحديثة التي تشهدها مصر في تلك الفترة، وبعد شفائه قرر العيش في مصر، والتحق بوزارة الأشغال العمومية المصرية، عام 1859 وترقى في عمله حتى أصبح مديرا لأول متحف للفن الإسلامي، بل يُعدّ أبرز معماري القرن التاسع عشر الذين ساهموا في بناء مصر الحديثة، وكبير مهندسي وزارة الأوقاف، وحامي الآثار الإسلامية.
ثم عرض الكاتب لقصة حياة"ماكس هرتز" الذي دارت حوله أساطير تعمد وضع الصلبان في مسجد "الرفاعي" وانبهاره بالقميص المسحور الذي وظّف قصته الروائي أحمد مراد في روايته "الفيل الأزرق".
يحكي الكاتب أن مصطفى بك شمس الدين كان يمتلك قميصا مسحورا عمره يزيد عن 400 عام، مزخرف بالتمائم والأحجبة الشيعية، كان يرتديه أمير مجهول، قتل ودماؤه في كل أنسجة القميص. كان مصطفى بك يبحث عمن يشتري منه القيمص المسحور، حتى ظهر الخواجة هرتز باشا؛ ليشتري القميص بخمسة جنيهات، ويضمه إلى مقتنيات المتحف الإسلامي، ويعجز الأثريون عن فك طلاسمه. ثم بعد ذلك بعقود يأتي روائي شاب هو أحمد مراد، ليوظف هذا القميص في روايته" الفيل الأزرق". كما أن هرتز باشا أراد أن يشيد مسجد" الرفاعي" على غرار العمارة القبطية، حيث زين واجهته بصلبان كثيرة أسفلها آيات قرآنية، ويرى البعض أن هذه الصلبان دليل مكر وخبث من الخواجة هرتز الذي دسّ الصلبان المسيحية في عمارة إسلامية.
ثم يتحدث عن الخواجة المغامر فيرنر منزينجر، مخطط وقائد الحملة العسكرية المصرية على الحبشة، حيث أقنع السويسري منزينجر الخديو إسماعيل بإعداد حملة لإخضاع الحبشة، وحينما وصلت الأنباء للأثيوبيين عن تقدم 2000 من المصريين بقيادته من "كسلا" عبر إقليم الدناقل" إريتريا حاليا) ومع التقدم السريع للمصريين كان رجال القبائل الدناقليون يعدون كمينا بالقرب من منطقة" عدوة" وقد استطاعوا إبادة قوات الخديو إسماعيل بأكملها.
بعدها يعرض الكاتب لسيرة حياة السير وليام ويلكولكس البريطاني الذي هندس ووضع خريطة بناء السدود المصرية، ولكنه لم يكتف بهذا الدور، بل أثار جدلا استمر طويلا حول علاقة المصريين باللغة الفصحى واللهجة العامية، حيث ألقى خطابه الشهير في نادي الأزبكية طالب فيه المصريين بنشر اللغة العامية (اعتبرها لغة وليس لهجة) والتأليف بها، وقد عنون خطبته بطرح غاية في الخطورة، حيث كان عنوان المحاضرة"لما تنعدم قوة الاختراع عند المصريين؟" وأرجع ذلك إلى أن المصريين المعاصرين يفكرون ويتحدثون بلغة، ويكتبون بلغة مختلفة تماما، قاصدا بذلك التباين بين الفصحى والعامية، بل ودعا السير وليام المصريين في أكثر من مناسبة على الكتابة بالعامية المصرية.
كما يعرض الكاتب لشخصية الصحفي والمؤرخ السويسري "جون نينيه" الذي لعب دورا خطيرا في المجتمع المصري بقيامه بدور الوسيط بين والي مصري وفلاحيها في زراعة القطن وحلجه وتسويقه، وتطوع ليعمل طبيبا لمعالجة آلام الفلاحين المصريين وأوجاعهم باستخدام الطرق البديلة في أوقات فراغه. وكان يكتب قصص الفلاحين المصريين وهو يستمع إلى شكواهم، ويستنتج ردود أفعالهم ويتفاعل معهم، وكان يرسل هذه القصص إلى كبريات الصحف الأوربية في هذا الوقت. وكان مرتبطا بالحياة في مصر حتى أنه أطلق عليها في أكثر من مناسبة "وطني الثاني"، وليس هذا بمستغرب، فقد قضى على ضفاف النيل في مصر 43 عاما، عاشها بين الفلاحين والبسطاء.
ثم سرد الكاتب قصة الخواجة ألبرت فارمان الذي أهداه الخديو آخر مسلة مصرية لينقلها إلى وطنه الأم أمريكا، وتنهض الآن شامخة في مدينة نيويورك. أسهم فارمان في خروج آخر مسلة مصرية قديمة من مصر، والتي كانت تتصارع الدول الكبرى من أجل الحصول عليها.
كما لعب فارمان دورا محوريا في العلاقات المصرية الأمريكية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بل وكان له الدور الأخطر في حياة المصريين، حيث ساهم عبر كتاباته بتعريف العالم بخطورة موقع مصر، ومحاولة استعمارها للسيطرة عليها.بل قدّم رؤية استشرافية لمستقبل مصر بعد الاحتلال الإنجليزي في كتابه (مصر التي غُدر بها) وتساءل عن أحوال المصريين عقب الاحتلال البريطاني لها.
ثم عرض لحياة هنريش بروكش الذي لا يقل دوره عن دور شامبليون، حيث فك طلاسم اللغة الديموطيقية ورموزها، وكان قاموسه الذي ألفه في اللغة الديموطيقية منعطفا جديدا في علم المصريات.
وقد تولّى بروكش إدارة أول مدرسة مصرية للألسن والتي أُسست عام 1869 تحت اسم مدرسة اللسان المصري والحبشي.
وقد ساهم في خروج الكثير من الآثار المصرية لتستقر في متحف برلين، وحينما توفي عام 1894 في ألمانيا أوصى أن يُدفن في تابوت فرعوني، وبالفعل أجريت مراسم دفنه في تابوت من الجرانيت الأسواني الأحمر، زُين بالرسومات الفرعونية وزهرات اللوتس؛ لتكون الحضارة المصرية القديمة غطاء له في مماته كما كانت في حياته.
وأخيرا عرض الكاتب لحياة جنرال وليام لورينغ صاحب يوميات" الحرب المصرية الأثيوبية" والخواجة اللورد كارنافون الذي وصف له الطبيب الإنجليزي أن يغادر بلاده بحثا للعلاج في مصر، لكن علم المصريات استهواه، فساهم في اكتشاف عدد من مقابر الدولة المصرية الوسطى، إلى جانب عدد من الآثار الخاصة بالملكة حتشبسوت والملك رمسيس الرابع، ثم اكتشف عددا من الآثار اليونانية والرومانية.
وأخيرا يختم الكتاب بقصة الخواجة بيير لاكو الذي جاء إلى مصر ضمن لجنة دولية المعنية بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية، والمعنية بإعداد الفهرس العام للمتحف المصري، ثم أُسندت إليه رئاسة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، وذلك خلفا لعالم المصريات إميل جاستون شاسيات.
ثم أصبح مديرا لمصلحة الآثار المصرية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. ثم بدأ تمصير مسلحة الآثار المصرية، وعاد لاكو إلى باريس وعين أستاذا للمصريات في الكوليج دو فرانس حتى وفاته عام 1963.
|