القاهرة 09 يوليو 2024 الساعة 10:42 ص
بقلم: د. هويدا صالح
إن القول بأن المصريين ليسوا عربا والمناداة بالعودة إلى أصولنا المصرية القديمة، نحتفي بها ونحيي ثقافتها، ليس كلاما حديثا إنما تم طرحه من قِبَل مفكرين وفلاسفة مصريين منذ القرن الماضي، حينما أثار سلامة موسى هذا السؤال وانضم إليه كثير من المفكرين والمثقفين، ومن أبرز القائلين بالقومية المصرية، طه حسين الذي أكد ترسخ الهوية المصرية القديمة في وجدان المصريين، في كتابه "مستقبل الثقافة المصرية"، وكذلك المفكر لويس عوض وكتاباته عن أن الهوية المصرية متفردة ومختلفة عن هوية سكان شبه الجزيرة العربية. وجدد هذا الطرح توفيق الحكيم في سبعينيات القرن الماضي، واستمر المفكرون والأدباء في طرح هذا السؤال حول هوية مصر، هل هي مصرية قديمة أم عربية إسلامية ؟ صحيح أننا نتحدث العربية ويجمعنا إطار ثقافي واحد مع العرب من المحيط للخليج، لكن لنا خصوصية ثقافية تختلف عن كل الشعوب العربية، وهذه الخصوصية الثقافية تنبع من التراكم الحضاري الهائل الذي يمتد من آلاف السنين منذ عصر ما قبل الأسرات في مصر القديمة وحتى اليوم. طالما ناقشت سؤال الهوية في كثير من المقالات ولم أحسم الرد على نفسي بشكل حاسم هل مصر المعاصرة هويتها الرئيسية مصرية قديمة أم هويتها المعاصرة تنتمي للحضارة العربية الإسلامية، فأنا أؤمن بأن الهوية الثقافية لأي شعب من الشعوب إنما هي تتكون من طبقات تتراكم. ومصر بالذات التراكم الهوياتي فيها ظاهر وبيِّن. مصر تنتمي لمصر القديمة حتما، فسمات الشخصية المصرية وعاداتها وتقاليدها وحتى لغتها بمثابة نهر يسير أسفل النهر، وعربية إسلامية ثقافةً وأيديولوجية دينية، وشرق أوسطية، وإفريقية، وبحر متوسطية جغرافيا، وهذه الإجابة كانت إلى وقت قريب مقنعة بالنسبة لي، لكن بعد ادعاءات الأفروسنتريك أو المركزية الإفريقية والقول كذبا بأن المصريين القدماء بتراثهم الحضاري إنما هم صنيعة إفريقية هنا وجدت نفسي بحاجة إلى أن أحسم الإجابة، فمصر المعاصرة هي امتداد أصيل لمصر القديمة، والمصريون المعاصرون هم أحفاد المصريين القدماء، ومصر عبر التاريخ جاء إليها شعوب متنوعة العرق واللون وحتى الأيديولوجيا، ولكن هذه الشعوب كانت تنصهر في الأمة المصرية وتصير جزءا من نسيجها. وحين يستعصي شعب ما على الانصهار يظل المصريون يقاومونه حتى يطردونه ولو بعد مائة عام وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ تكشف استماتة المصريين في الدفاع عن أرضهم وطرد عدوهم مهما طال الزمن ولن ينسى المصريون الهكسوس والفرس والرومان والأتراك والفرنسيين والإنجليز.
ومن أكثر العلماء المعاصرين حماسا للدفاع عن الهوية المصرية الخالصة وامتدادها منذ مصر القديمة حتى مصر المعاصرة قال الدكتور زاهي حواس في محاضرة في جامعة القاهرة، حيث قال إننا : "نحن نتكلم اللغة العربية لكننا لسنا عربا، ونقول إننا في أفريقيا لكننا لسنا أفارقة، نحن شعب إلى الوقت الحالي له شكل خاص وطبيعة خاصة نابعة من 5 آلاف عام".
ومن يقرأ في تراث مصر القديمة، تاريخ الفن والأدب فيها، وحتى تاريخ الحياة الاجتماعية لا بد أن يتأكد له أن هذا الشعب المعاصر، مهما تعددت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يمر بها، إنما هو امتداد طبيعي للمصري القديم.
في كتابه الشهير "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان" اعتبر المفكر المصري جمال حمدان أن مصر جغرافيا تقع في أفريقيا ولكنها تمت بصلة إلى آسيا تاريخيا . وأن اختلاط الدم وانصهار العرب الوافدين والسكان الأصليين أصبحا حقيقة تاريخية ثابتة، ومع ذلك يؤكد حمدان أن "الشخصية المصرية" مستمرة منذ مصر القديمة وحتى العصر الحالي -بما في ذلك الملامح الاجتماعية والثقافية والمفردات التي تتخلل اللغة العامية المصرية وحتى الأدوات القديمة التي لا تزال مستخدمة في مصر الحديثة، لذا من الأهمية بمكان أن نؤكد على خصوصية الشخصية المصرية ردا على الدعاوى الكاذبة التي تحاول أن تسلب التاريخ المصري القديم وتنسبه إلى شعوب أفريقية السمراء ولن أقول الزنجية بما أن هذا المصطلح تمّ تحميله بدلالات عنصرية منذ استعباد الشعوب الأوربية منذ قرون طويلة لشعوب أفريقيا السمراء؛ لذا أنا أفضل استخدام مصطلح أفريقيا السمراء حتى لا أقع في فخ العنصرية الأوربية التي مارست العبودية والاستعباد لشعب إفريقيا .
الهوية هي مجموعة من القيم والتصورات التي يتميّز بها مجتمع ما، تبعاً لخصوصياته التاريخية والحضارية، فلكل شعب ثقافة تميزه عن غيره من الشعوب، وتمتزج فيها العناصر الحقيقية بالعناصر المتخيّلة. ومع ذلك فإن التنوع الثقافي الذي يميز المجتمع المصري سواء أيأتي من الرافد المصري القديم أو الرافد العربي والإفريقي ورافد شعوب البحر المتوسط إنما يزيد الهوية المصرية خصوصية. فلا يوجد عرق نقي في شعب من الشعوب اللهم الشعب اليهودي الذي ينادي بنقاء العرق ولا يعترف بيهودية أفراده إلا إذا كانت الأم نفسها يهودية.
لذا لا يعيب مصر أن تكون خليطا من أجناس مختلفة جاءت إليها عبر عصور ماضية وانصهرت وتجانست مع الشخصية المصرية، لكن يعيبها ويعيبنا جميعا أن نتنكر لتراثنا المصري القديم وندعي أننا عرب مسلمون لصالح دعاوى مغرضة تريد أن تسلبنا حضارتنا. ولو أن الانتساب للعرب والتنكر للحضارة المصرية القديمة نفاقا أيديولوجيا للإسلام أو لنقل للمسلمين في الجزيرة العربية علينا أن نتذكر أن الأتراك مسلمون ولكنهم يتمسكون بالقومية التركية والإيرانيين مسلمون لكنهم يتمسكون بالقومية الفارسية وقس على ذلك ماليزيا والفلبين وحتى الهنود المسلمين وغيرها من القوميات التي لا تتنكر لهويتها وخصوصيتها الثقافية لصالح الأيديولوجيا الدينية.
-
الهجرات إلى الوفرة النفطية
ربما الظروف الاقتصادية التي مرّت بها مصر بسبب الحروب الكثيرة التي خاضتها من أجل القضية الفلسطينية والتخبّط السياسي منذ عقود الذي أدّى بالضرورة إلى إفقار متعمد للشعب المصري مما دفع المصريين إلى الهجرات من أجل العمل ولقمة العيش إلى بلاد الخليج دفع بعض المصريين إلى التقرب ولو نفسيا من صاحب رأس المال، فبدأت دعوات مصر العربية الإسلامية تستشري بين المصريين حتى أن أفكار اليمين المتطرف الذي حكم المجتمع المصري لفترة قصيرة حاول أن يشوه هويته الثقافية ويتهم من يدافع عن التراث الحضاري لمصر القديمة أنه يدافع عن تراث وثني.
-
القومية المصرية والأزمات الكبرى
لا شك أن النسويات المصريات من أكثر التيارات المصرية حماسا لاعتبار مصر المعاصرة امتدادا لمصر القديمة؛ ذلك أن وضعية المرأة في مصر القديمة كانت متقدمة مقارنة بالشعوب المحيطة بها وخاصة شعوب الجزيرة العربية، فالمرأة في مصر القديمة كانت حاكمة وقائدة للجيوش وصانعة للأبطال المدافعين عن الأمة المصرية؛ لذا الدعوة إلى إحياء القيم المصرية القديمة لاقت هوى لدى النسويات المصريات لأنهن يعتقدن أن في ذلك رد اعتبار لهن ضد ثقافة عربية اعتبرت المرأة عورة وطالبتها بالردة في المكاسب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي حققتها عبر العقود الماضية.
فبعد صعود التيار الإسلامي السياسي إلى حكم مصر عقب ثورة 25يناير 2011 والدعوات التي أطلقها الإسلاميون بعودة النساء إلى البيت واستبعادهن من مجال العمل والسياسة أرعبت تلك الدعوات النساء المصريات وجعلت من المرأة المصرية خط الدفاع الأول في ثورة 30 يونيه.
لا يمكن أن ننكر أن دعوات الهوية المصرية تظهر في وقت الأزمات أو الانكسارات. ومنذ فشل الإسلام السياسي ونحن نقرأ دعوات كثيرة إلى رفض الانتساب إلى العروبة والإسلام والعودة للجذور المصرية القديمة.
-
الأفروسنتريك وعقدة الاستعباد الغربي
في الحقيقة ليس لدينا كمصريين مشكلة كبرى مع دعوات القومية العربية والإسلامية، وخاصة بعد تمكّن الشعب المصري من إزاحة حكم الإخوان المسلمين وإلى الأبد بعد 30 يونيه، لكن مشكلتنا الآن في الدعوات التي يدعمها الغرب الأوربي والأمريكي، دعوات الأفروسنتريك، فأوروبا ومعها أمريكا تريد أن تتخلص من عقدة الذنب الاستعمارية، عقد الاستعباد الذي مارسوه طويلا ضد شعوب إفريقيا السوداء بأن يساعدونهم على إقامة وطن قومي في مصر، هل تتخيل المأساة التي يريدون أن يضعونا فيها؟!، ألم يكفهم الكيان الصهيوني المحتل في فلسطين حتى أنهم يسعون إلى إقامة كيان آخر في مصر بحجة المركزية الإفريقية؟ لقد بينت في مقالي السابق بالأدلة العقلية كيف أن الحضارة المصرية صنيعة المصريين وحدهم ونحن امتداد لهؤلاء المصريين ولسنا صنيعة شعوب إفريقيا!.
لا يجب أن نصمت على دعوات حركة "الأفروسنتريك" عن أصول الحضارة المصرية،ولا يجب أن نتغافل عن ادعاءات الأصول الأفريقية السوداء للحضارة المصرية وأن أصول تلك الحضارة بالكامل تنتمي للعرق الإفريقي، لذا يجب على وزارات الخارجية والسياحة والآثار وضع استراتيجية دفاعية ترويجية للحضارة المصرية القديمة وأصول المصريين والروابط التاريخية والثقافية التي تربط المصري المعاصر بالمصري القديم.
يجب أن يهتم المفكرون والعلماء المصريون بدراسات ما بعد الاستعمار وتحميل الغرب فاتورة احتلالهم لمصر لعقود طويلة ومخاطبة الجامعات الغربية ومراكز البحوث التاريخية لتوضيح الرؤية المصرية لحضارتها القديمة وامتداداتها المعاصرة. بل يمكن استغلال الدراسات العلمية الحديثة ودراسات الحامض النووي وتحليل الهياكل العظمية لتأكيد الأصول العرقية للمصريين عبر العصور.
كما يجب أن نهتم بالدراسات الأنثروبولوجية للبحث عن الامتدادات المصرية عبر العصور. لقد أفلح الأفارقة من خلال دراسات ما بعد الاستعمار في تحميل الغرب فاتورة احتلاله لأفريقيا السوداء لقرون طويلة، فلماذا لا تقوم مراكز البحوث المصرية بجهود مماثلة حتى تضع الغرب أمام جرائمه التي ارتكبها بحق الأمة المصرية.
|