القاهرة 02 يوليو 2024 الساعة 01:37 م
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي - ليبيا
استق معرفتك عن الصنوبر من شجرة الصنوبر، وعن البامبو من شجرة البامبو.
لا تتبع خطى قدامي الشعراء، بل اسع وراء ما كانوا يسعون إليه.
أساس الفن هو التغير[الساري] في الكون. الجمادات لامتغيرة الشكل. المتحركات تتغير، ولأنه لا يمكننا إيقاف الوقت، لذا يظل عصيا على القبض. لإيقاف شيء ما لا مفر من شق منظر أو صوت في قلوبنا إلى نصفين. أزهار الكرز تندفع في تفتحها، الأوراق تتساقط، والريح تنشرهما معا عبر الأرض. لا يمكننا القبض، بأعيننا أو آذاننا، على ما هو كامن في مثل هذه الأشياء. وحين تتحقق لنا السيطرة عليها، ستكون حياة أي شيء قد تلاشت دونما أثر.
اجعل الكون رفيقك، آخذا في اعتبارك دائما الطبيعة الحقيقية للأشياء (الجبال والأنهار، الأشجار والأعشاب، والإنسانية) واستمتع [برؤية] الأزهار الساقطة والأوراق المتبعثرة.
على المرء أن يعرف أن الهوكّو صنع بواسطة دمج الأشياء.
سر الشعر يكمن في طَرْق الدرب الذي يتوسط الواقع وفراغ العالم.
على المرء، بداية، أن يركز أفكاره على شيء ما. حين يحقق ذهن المرء حالة التركيز ويتلاشى الفضاء الواقع بينه وبين الشيء، عندها يمكن إدراك الطبيعة الصميمة لهذا الشيء. عليك، لحظتها، التعبير عنها فورا. إذا ما أخذ المرء يتأملها، فإنها ستزول من الذهن.
سابي(*) هو لون القصيدة. وليس ضروريا أن يقتصر هذا على تلك القصائد التي تصف مشهدا متفردا. فلو أن رجلا ذهب إلى الحرب متدرعا حلة حربية أو ذهب إلى حفلة لابسا ملابس زاهية وتصادف أن هذا الرجل كان شيخا، فسيكون ثمة شيء متميز يتعلق به. سابي شيء مشابه لهذا.
حين تؤلف أبياتا، لا تترك مجالا بمقدار شعرة يفصل ذهنك عما تكتب. قل ما [يرد إلى] خلدك فورا. لا تتردد للحظة.
ينبغي أن يحدث التأليف فورا، مثلما يقطع نقار الخشب شجرة هائلة، أو مثلما يثب المحارب على عدوه. ذلك يشابه أيضا شق دلاعة ناضجة بسكين مرهفة أو تناول قضمة كبيرة من إجاصة.
أ ثمة أية فائدة من قول كل شيء؟
توجد طريقتان تتعلقان بتأليف الهوكو: الطبع becoming) ) والصنعة (making) . حين ينكب شاعر ما، دائب على ملاحقة هدفه، على موضوع خارجي، فإن لون ذهنه يصير، تلقائيا، قصيدة. أما في حالة الشاعر الذي لا يفعل ذلك فما من شيء فيه سيصير قصيدة، وبالنتيجة فإنه سيصنع قصيدة من خلال [إعمال] الإرادة الشخصية.
يتواجد الهايكاي على منضدة الكتابة فقط. إذا ما أبعد عنها ينبغي النظرإليه على أنه مجرد قصاصة ورق.
ثمة ثلاثة عناصر في الهايكاي. المشاعر التي ينطوي عليها يمكن تسميتها وحدة (سابي). إنه يتلاعب بصحون مصقولة، إلا أنه يقنع بطعام متواضع. تأثيره العام يمكن تسميته أناقة. هذا يعيش ضمن براعات مجازية وتطريزات باذخة، دون أن ينسى أسمال المرء المنسوجة من الخوص. لغته يمكن أن تسمى هوسا جماليا. اللغة تقيم في اللاحقيقة وعليها أن تنسجم مع الحقيقة. [لأنه] من العسير عليها الإقامة في الحقيقة والتلاعب باللاحقيقة. هذه العناصر الثلاثة لا تضع الإنسان السافل في الأعالي. بل هي تضع الإنسان العالي في المكان السافل.
تكمن فائدة الهايكاي في منحه المشروعية للكلام العامي.
إذا كنت تصف صفصافة مورقة تحت مطر الربيع فسيكون ذلك رائعا لو كتب على نمط شعرالرنغا. لكن الهايكاي، على أية حال، يحتاج أكثر من غيره من أنماط الشعر الأخرى إلى الصور المبتذلة، من مثل غراب يلتقط حلازين الوحل في حقل أرز.
طرأت على الهوكو تغيرات كثيرة منذ الماضي البعيد، إلا أنه لم تطرأ سوى ثلاثة تغيرات على مطولة الهايكاي. في الماضي البعيد كان الشعراء يفضلون المطولات ذات اللغة الفصحى. وفي أزمنة متأخرة تحول اهتمام الشعراء إلى مضمون المطولات. أما اليوم فإنه من الأفضل الربط بين التأمل (utsuri) والصدىhibiki) ) والرائحة ( nioi) أو الوضع ( kurai).
في هيكلي الفاني هذا، المصنوع من مئة عظم وتسع فتحات، ثمة شيء ما، وهذا الشيء الما يمكن أن يسمى، بسبب عدم وجود تسمية أفضل، الروح التي تبعثرها الريح، ذلك أنه يشبه إلى حد كبير ستارة جوخ رهيفة تتمزق وتتبعثر[مزقاتها] عند تعرضها لأوهى هبة ريح. هذا الشيء الذي بداخلي شغف بكتابة الشعر منذ سنين مضت، لمجرد المتعة الذاتية في البداية، ثم ليجعل منها في النهاية عمله الحياتي الدائم. ومهما يكن من أمر، ينبغي الاعتراف أنه كانت ثمة أوقات كان [هذا الشيء الما] يغرق فيها في ذلك الاغتمام الذي يجعله مستعدا، يمكن القول، للتخلي عن سعيه، أو أوقات يكون فيها منتفخا زهوا وممتلئا جذلا بانتصاراته الموهومة على الآخرين. وفي الواقع، فإنه منذ أن ابتدأ كتابة الشعر لم يتوصل إلى سلام بينه و بين نفسه، بل كان يتأرجح دائما بين شكوك من نوع أو آخر. في فترة ما رغب في نشدان الأمان من خلال العمل في البلاط، وفي فترة أخرى تمنى أن يسبر عمق جهالته من خلال السعي إلى أن يكون معلما، إلا أنه حيل بينه وبين هذين المسعيين بسبب حبه الذي لا يرتوي للشعر. في الحقيقة هو لا يعرف فنا آخر غير فن كتابة الشعر، لذا فإنه يتعلق به على نحو يكاد يكون أعمى.
الشعر مدفأة في الصيف أو مروحة في الشتاء.
بعد التطواف من مكان إلى مكان عدت إلى إيدو وقضيت الشتاء في ناحية تسمى تاتشيبانا، حيث ما زلت أقيم، رغم انقضاء الشهر الثاني من السنة. خلال هذه الفترة حاولت نبذ الشعر والخلود إلى الصمت، ولكنني في كل مرة أفعل ذلك تلح مشاعر شعرية على قلبي ويومض في ذهني شيء ما. هذ هو النفوذ السحري للشعر. تحت هذا التأثير تركت كل شيء وغادرت موطني، دون فلس تقريبا، وكنت أقتات من خلال التسول. يالطغيان سلطان الشعر، ذلك الذي يجعلني أتضع إلى مجرد شحاذ بائس.
ثمة عنصر مشترك يسري في غنائيات ساياغوي ومطولات سوجي ورسومات سسشو وطقس راكيو في تقديم الشاي. إنها روح الشعر( furabo)، تلك الروح التي تجعل المرء يقتفي الطبيعة ويصبح صديقا لمفردات الفصول. المرء الذي يمتلك تلك الروح كل ما يراه يصير زهرة وكل ما يتخيله يتحول قمرا. أولئك الذين لا يرون الزهور لا يختلفون عن الأجلاف، وأولئك الذين لا يتخيلون القمر هم بالوحوش أشبه. اترك الأجلاف والوحوش خلفك واقتف الطبيعة.
كل شكل من أشكال الوجود غير العاقل- نبات، حجر، أو أدوات- تمتلك مشاعرها الخاصة بها الشبيهة بمشاعر البشر.
حين نلاحظ [العالم] بهدوء نكتشف أن جميع الأشياء تؤدي وظيفتها.
ليس من الضروري أن يكون المرء شاعرهايكاي، لكن إذا لم يعش المرء حياة عادية ويفهم المشاعرالعادية، فمن المرجح ألا يكون شاعرا.
وأنا مؤتزر المئزر الأسود، لم أكن راهبا و لا رجلا عاديا، وإنما كنت أسوح دون انقطاع، كالخفاش الذي يُنظر إليه كطائر أحيانا وكفأر أحيانا أخرى.
عندما أكون جالسا صحبة كيكاكو في نفس الحفل، كنت أشعر دائما أنه يتطلع إلى تأليف شعر يسر جميع الحاضرين. لم تكن توجد لدي النية نفسها.
إنه لمما يثيرالإعجاب أن تكون متمتعا بذهن لا يحرفه شيء عن مساره، و إنه لمما يدعو إلى التمجيد أن تكون خاليا من موهبة أو معرفة دنيوية. الشيء نفسه يمكن أن يقال عن السواح الذي لا مأوى له، إلا أن تدبير حياة بهذا التحرر يتطلب إرادة حديدية.
منذ الأزمنة الغابرة لم يستنكف ذوو الميول الشعرية من حمل المخالي على ظهورهم أو انتعال نعال القش أو ارتداء قبعات بسيطة بالكاد تقيهم عوامل الطبيعة. إنهم يستمتعون بتعويد عقولهم الانضباط عبر المعاناة ليكتسبوا، من ثم، المعرفة بالطبيعة الحقيقية للأشياء.
يحتاج المرء إلى الجد لتحصيل الكشف [الاستنارة] ليعود، من ثم، إلى الدنيا.
عظام الهايكاي هي البساطة والتلقائية.
الشعر الذي يحتوي داخله شيئا ما شائقا، لا تثريب عليه، حتى لو لم يكن معناه واضحا تماما.
تناول حساء الخضار، بدلا من طبيخ البط.
الأسلوب الذي أتصوره خفيف فيما يتعلق بالشكل والبنية أيضا، كذلك الانطباع الذي يخلفه النظر إلى القاع الرملي لنهر ضحل.
أوراق شجرة باشو(**) عريضة بما يكفي لأن تغطي [آلة] العود. حين تخفق في الرياح تذكرني بذيل العنقاء الجريح، وحين تمزق تذكرني بأذن التنين. هي شجرة مزهرة، إلا أن أزهارها، خلافا لأية أزهار سواها، خالية من البهجة. جذعها الضخم بمنأى عن الفؤوس، لأنه من غير الممكن الاستفادة منه في البناء. لقد كتب الراهب هوّاي-سو عن الأوراق، وشاهد تشانغ هِنغ-تشو الأوراق الجديدة وهي تتفتق وحفزه ذلك على دراسات الـ hsi. وأيا يكن الأمر، فأنا أحب هذه الشجرة لعدم نفعها. إنني أرتاح في ظلها وأنا مولع بها لأنها سهلة التمزق والتصدع بفعل الريح والمطر.
(*) "العنصران المهيمنان في الثقافتين والفنون الصينية واليابانية هما وابي ( wabi) وسابي ( sabi)، حيث تشير وابي إلى التصور (construct) الفلسفي، الإحساس بالمكان والاتجاه، أو الطريق، في حين تعتبر سابي تصورا جماليا يتجذر في الموضوع المعطى وملامحه، علاوة على التحيز في الزمن، التعاقب الزمني، والعيانية objectivity))
"تشير سابي إلى العمليات الطبيعية الناشبة في الأشياء غير المطردة، البسيطة والمبهمة. فالأشياء تعكس تدفقا كليا متعلقا بـ"المصدر ( coming from )" و" المآل ( returning to)". إنهما يمثلان لحظة مؤقتة ( impermanence) متجانسة، بدون شك، واستفزازية تقود الناظر أو السامع إلى التأمل والتفكير الذي يعود به إلى الوابي ومن ثم إلى السابي مجددا في تجربة جمالية هدفها توليد منظور مكتمل متسام ومنطو على السكينة."
(**) تعني"باشو" في اليابانية شجرة الموز، وقد اتخذها الشاعر اسما أدبيا له.a
|