القاهرة 11 يونيو 2024 الساعة 10:40 ص
 

بقلم: أسامة الزغبي

حكت لي صديقتي الإسبانية أن جدتها كانت تحتفظ بتمثال بحجم كبير للجنرال فرانكو في مطبخ بيتها حتى تُوفيت، وكانت تتعامل معه بالتبجيل الواجب للقدسيين؛ باعتباره من خلصهم من المهرطقين أعداء الكاثوليكية طوال مدة الحكم الجمهوري، التي استمرت من 1931 وحتى عام 1936، وهو العام الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية الإسبانية والتي سالت خلالها أنهار من الدم في هذا البلد الجميل.
في نهاية القرن الخامس عشر و-تحديدا- في عام 1492، قام الملكان الملقبان بالكاثوليكيين من قبل البابا إسكندر الرابع لدفاعهما عن الدين الكاثوليكي في مملكتيهما، وهما إيسابيلا الأولى ملكة قشتالة وفريناندو الثاني ملك أراجون بطرد المسلمين من شبه جزيرة إيبيريا، ورغم توقيعهم معاهدة مع آخر ملوك بني الأحمر، أبي عبد الله الصغير، تقضي باحترام وحماية المسلمين، إلا أن ما تم على الأرض جاء مخالفا لكل ما تم الاتفاق عليه؛ لم تمض الكثير من السنوات حتى قُضي بإقصاء كل المسلمين خارج إسبانيا، وأصبحت الكاثوليكية الدين الوحيد في إسبانيا وعرفت بنزعتها السياسية المحافظة وتماهيها مع النظام الاجتماعي.
لعب رجال الدين المسيحي أكبر الأدوار في شيطنة كل ما هو غير كاثوليكي، ابتداء من توماس توركيمادا، مفتش مملكة أراجون العام، والذي لقب بمطرقة المهرطقين، فيما عرف تاريخياً بمحاكم التفتيش، حتى تم تطهير إسبانيا بالكامل من كل المسلمين واليهود، وتم تنصير من تبقى، جبراً. منذ هذا الوقت، حازت الكنسية مكانة سامية ومتميزة في الثقافة الإسبانية، حتى بات من الطبيعي أن تلقب بين البلاد الأوروبية باسم إسبانيا الكاثوليكية. بعد أن غزت إسبانيا العالم الجديد، اعتبرت الكنسية (كثلكة) السكان الأصليين في الأمريكيتين، مهمة مقدسة، مما زاد من أهمية الدور الذي تلعبه داخل الإطار السياسي للدولة. 
ظل الأمر هكذا حتى نهاية القرن التاسع عشر رغم بعض الثورات الليبرالية، ثم فتح نظام البوربون الملكي الحاكم آفاقا جديدة من السلطة والنفوذ الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكية والأرستقراطية مالكة الأراضي، ومنحت العديد من الأسر الثرية الكثير من التبرعات والأموال والمباني إلى الأبرشيات. 
للدلالة على تغول الكنيسة في هذا المجتمع في تلك الفترة، يكفي أن نذكر أن عدد الكهنة وصل إلى 115 ألفا، ومن هؤلاء كان هناك نحو 60 ألف راهبة، و35 ألف كاهن أبرشية، و15 ألف راهب،  في بلد تعداده 23 مليون نسمة في ذلك الوقت إبان إعلان الجمهورية في عام 1931.
 ولكن بدخول القرن العشرين، بدأت أصوات علمانية معارضة للإكليروس من مثقفين ليبراليين ويسار برجوازي في مهاجمة الكنيسة وامتيازاتها، ثم انضم إليها العمال المتشددون. وهكذا ظهرت شبكة من النوادي الثقافية والصحف والمدارس معادية لحكم القلة ولهيمنة رجال الدين. انطلقت الحركة من برشلونة، ثم امتدت لبقية المدن الإسبانية، ومع الوقت اشتدت راديكالية هذه الحركة، فلم يعد الهدف فقط الحد من سلطة الكنيسة، بل القضاء عليها بوصفها سلطة عامة، وفرعا من فروع الحكومة، فضلا عن مكانتها كقوة اجتماعية ثقافية في المجتمع.
تميزت العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين داخل إسبانيا بالكثير من صراع الطبقات، والأفكار بسبب التصنيع والنمو الحضري، ومع قيام الثورة البلشيفية في روسيا، وصلت الأفكار الاشتراكية والشيوعية إلى إسبانيا. أثمر هذا الصراع في عام 1931 عن إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، والتي كانت ذات توجه اشتراكي. بنهاية عام 1931، تمت كتابة دستور جديد، تم فيه إلغاء دور الكنيسة التربوي، وإلغاء مدارس الراهبات، مع إزالة الصلبان من المدارس، وأيضا، إلغاء تمويل رجال الدين، وإقرار الزواج المدني، وإعلان الطابع غير المذهبي للدولة.
لم تقف الكنيسة عاجزة أمام هذه القرارات، فصدر ما سمي بإعلان الأساقفة في 1933، والذي أعربوا فيه عن أسفهم للهجوم القاسي على الحقوق الإلهية للكنيسة، ثم أصدر الفاتيكان منشورا يدعم هذا الإعلان. 
في 17 يوليو عام 1936، أعلن الجنرال إميليو مولا حالة الحرب على النظام الجمهوري المنتخب ديموقراطيا. كان من الطبيعي كرد فعل من الكنيسة، وكرغبة في الانتقام من هذا الدستور، وممن كتبوه ، أن تؤيد، وبشكل مطلق، الانقلاب الذي قاده ترأسه لاحقا الجنرال فرانكو، في عام 1936، منطلقا من الأراضي المغربية، حيث كان هو القائد العام لما يسمى بالجيش الأفريقي، وهو فرقة من الجيش الإسباني كانت قائمة على تأمين الوجود الإسباني بالمغرب العربي.
 حصل فرانكو على دعم مطلق من الكنيسة؛ صورت الكنيسة الإسبانية هذا الانقلاب في رسالة إلى الفاتيكان كحملة صليبة جديدة. وجهت الكنيسة مواردها التي لا يستهان بها لخدمة الانقلاب. وفي الوقت الذي نظر العالم بتوجس وريبة لهذا الانقلاب في بدايته، باعتباره تعدياً على نظام جمهوري منتخب، استطاعت الكنسية من خلال رسائل سرية كتبها الكاردينال إيسيدروا جوما وتمت ترجمتها إلى أكثر من لغة، وأُرسلت إلى كل الكنائس في العالم، بعد أن  صورت لهم أن النظام الجمهوري هو نظام قائم على مهاجمة الكاثوليكية، بل ويضطهدها. بإعلان الكثير من الكنائس الكاثوليكية حول العالم مساندة الكنسية الإسبانية، حصل فرانكو على قدر كبير من الدعم المعنوي، كان في أشد الحاجة إليه، وشجعته هذه التعبئة الدينية على تزيين خطاباته بإشارات إلى الله والدين كانت غائبة حتى ذلك الحين عن بيانات الانقلاب العسكري والتصريحات اللاحقة، وبدأ من تلك اللحظة تصوير نفسه باعتباره حامي الدين مما جلب له كثير من التعاطف من قبل المدنيين الإسبان، الذين كانوا رغم فقرهم وتهميشهم مستائين من القوانين الجمهورية، التي حاولت تغيير نمط حياتهم الذي استمر لقرون بشكل مفاجئ. ومنذ تلك اللحظة وصاعدا، بدأت الكنيسة في معاملة فرانكو باعتباره قديس ومخلص إسبانيا والمسيحية، وهو ما يتطابق مع ما قصته علي صديقتي عن جدتها. تعاونت السلطات الكنسية مع موجات القتل والقمع التي قامت بها قوات فرانكو ضد أنصار الجمهورية. 
وهكذا، بينما يحصل المتمردون على كل هذا التأييد، لم يحصل فيه الجمهوريون على أي نوع من الدعم من أوروبا الغريبة، بسبب إعلان إنجلترا وفرنسا الحياد في هذا الصراع، لأنهم كانوا ينظرون بخوف وريبة للنظام الجمهوري بسبب سيطرة الاشتراكيين والشيوعيين عليه، خوفا من استغلال السوفييت للموقف. 
لم يستطع الانقلاب العسكري حسم المسألة سريعا، فانقسمت إسبانيا إلى فسطاطين، وبدأت الحرب الأهلية، التي استمرت ثلاث سنوات. بسبب التأييد المطلق من الكنيسية للمتمردين انفلت العنف المعادي لرجال الدين من عقاله في المناطق التي كانت لا تزال تحت سيطرة الجمهوريين، والأرقام صادمة في هذا الصدد، حيث قُتل أكثر من 6800 من رجال الكنسية، وحرقت الكثير من الكنائس، خاصة في كاتالونيا، التي شهدت مصرع ثلث رجال الدين الذين قتلوا في إسبانيا الجمهورية، وهُوجمت قصور الأساقفة بحثا عن الثروات الكبيرة التي كان يفترض أنها مخبأة فيها. وتم قتل 283 راهبة، وفقا لدراسة الأسقف أنطونيو مونتيرو مورينو في عام 1961، وكانت طقوس إخراج جثث الراهبات من قبورهن أمراً شائعا في أيام العنف الثوري المعادي للدين في 1936. لم يكن العنف المعادي لرجال الدين يمثل هجوما ضد الدين بقدر ما كان هجوما ضد مؤسسة دينية يعتقد أنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالأغنياء والأقوياء.
كان لهذا العنف والعنف المضاد صدى في الأدب الإسباني في فترة ما بعد الحرب، يحكي الكاتب الإسباني الشهير إدرواردو مندوثا في روايته الشهيرة، عام الطوفان، عن رجل دين مسيحي يدعي موسين بايار، اتفق من بعض جيرانه أن يحملوه إلى مقبرة في أيام انفلات العنف ضد رجال الدين، ويغلقونها عليه بعض الوقت، ثم يعلنون أنه  مات، كي ينجو من انتقام دوريات الجمهوريين، ثم بعد ذلك يأتون ويفتحون له، وبتغير مظهره، يمكن له أن يحيا بهوية جيدة، ولكن ما حدث أنهم لم يأتوا، لربما ماتوا في الصراع أو هرب ضمن آخرين. تمكن الرجل، بمعاناة شديدة من عمل فتحة في جدار المقبرة وخرج بعد عدة أيام، ولكنة كان قد فقد عقله تماما، بعد أن قضي ليلتين حبيس المقبرة. 
هكذا، كانت الحرب الأهلية الإسبانية من وجهة النظر الدينية، حربا عادلة ومقدسة في أحد المعسكرين، وغضب عارم ضد رجال الدين في المعسكر الآخر، وهو الأمر الذي خلف ندوبًا كبيرة في ذاكرة الشعب الإسباني.