القاهرة 04 يونيو 2024 الساعة 11:56 ص
بقلم: د. حسين عبد البصير
عُرف الكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ بقدرته الفريدة على دمج التراث المصري والعربي في أعماله الأدبية، مقدمًا رؤية حديثة ومعاصرة لهذا التراث. من خلال أسلوبه الواقعي واستخدامه الغني للرموز والشخصيات التراثية، تمكن محفوظ من ربط الماضي بالحاضر، معبرًا عن القيم الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تشكل هوية المجتمع المصري.
في العديد من رواياته، يستخدم نجيب محفوظ الرموز والشخصيات التراثية لإلقاء الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية.
ففي رواية "أولاد حارتنا"، يستخدم محفوظ شخصيات مستوحاة من الأنبياء والقصص الدينية الكبرى ليعبر عن الصراع الأزلي بين الخير والشر، والعلاقة بين الإنسان والخالق، مما جعل الرواية حاملة لرمزية دينية عميقة.
وتركز رواية "الحرافيش" على أسطورة الفتوة في الحارة المصرية، مستمدة إلهامها من التراث الشعبي المصري. من خلال قصة عائلة الناجي عبر أجيال متعددة، يعبر محفوظ عن قيم الشجاعة، والعدل، والتضحية، وهي قيم متجذرة في التراث الشعبي. يستلهم محفوظ كثيرًا من التاريخ والثقافة المصرية القديمة والحديثة في أعماله، مما يعكس اهتمامه العميق بتراث مصر.
وفي رواية "ثرثرة فوق النيل"، يعكس محفوظ الحياة الاجتماعية والثقافية في مصر في فترة الستينيات، متناولاً تأثيرات التغيرات السياسية والاجتماعية على حياة الأفراد.
أما في رواية "بين القصرين"، الجزء الأول من "الثلاثية"، فيقدم صورة حية للقاهرة في أوائل القرن العشرين، مع التركيز على التقاليد والقيم الأسرية والثقافية. ويستخدم نجيب محفوظ لغة بسيطة وواقعية، لكن غنية بالرموز والمعاني المستمدة من التراث العربي والإسلامي. وتمثل هذه اللغة جسرًا يربط بين التراث القديم والحاضر المعاصر، مما يجعل أعماله ذات طابع خاص ومميز.
يعبر محفوظ من خلال تناوله للتراث، عن الهوية والانتماء الثقافي للمجتمع المصري. وفي رواياته، يظهر بوضوح التفاعل بين القيم التقليدية والتغيرات الحديثة، مما يعكس التوترات والانسجامات التي تشكل هوية المصريين. فرواية "ميرامار" تتناول التغيرات الاجتماعية والسياسية في مصر بعد ثورة يوليو 1952، مسلطة الضوء على الصراع بين القيم التقليدية والحديثة. وفي "يُوم قتل الزعيم"، يستعرض محفوظ من خلال هذه الرواية التغيرات التي شهدتها مصر في فترة السبعينيات والثمانينيات، معبرًا عن تأثير الأحداث السياسية الكبرى على حياة الأفراد والقيم الاجتماعية.
لم يكتفِ نجيب محفوظ بتوثيق التراث، بل استخدمه كأداة للنقد الاجتماعي والسياسي. من خلال تصويره للعادات والتقاليد والممارسات الثقافية، يعبر عن آرائه النقدية تجاه الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر. ففي رواية "اللص والكلاب"، يعكس من خلالها النقد العميق للفساد والظلم الاجتماعي، مسلطًا الضوء على الصراع الداخلي للبطل سعيد مهران، الذي يحاول الانتقام ممن خانوه. وفي رواية "زقاق المدق"، يعبر محفوظ من خلالها عن تأثير الفقر والتغيرات الاجتماعية على حياة الأفراد، مسلطاً الضوء على الصراع بين الأجيال والقيم.
إن التراث في أدب نجيب محفوظ ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو عنصر أساسي يشكل بنية رواياته ومعانيها. من خلال استخدام الرموز والشخصيات التراثية، والتعبير عن القيم الثقافية والتاريخية، فيعكس محفوظ الهوية المصرية بكل تعقيداتها وتنوعها. ويجعله هذا الاستخدام الذكي للتراث واحدًا من أعظم الكتاب الذين تمكنوا من دمج الماضي بالحاضر، مقدمًا رؤية عميقة وشاملة للمجتمع المصري. وسوف تظل أعماله شاهدة على عبقرية أدبية وفلسفية استحقت التكريم العالمي وتركت بصمة لا تُمحى في الأدب العالمي.
|