القاهرة 27 مايو 2024 الساعة 07:49 م
كتب: المحرر الثقافي
صدر مؤخرا عن دار فضاءات، في العاصمة الأردنية عمّان، كتاب "فلسفة السينما: بيلا تار" للناقد السينمائي محمود الغيطاني، في 450 صفحة من القطع الكبير، استمرارا لمشروعه النقدي الذي يتناول مجموعة من المُخرجين المُتميزين من حول العالم بالنقد والتحليل.
يتناول الغيطاني في كتابه نظرة المُخرج المجري بيلا تار للسينما، واستخدامها كأداة للتفلسف، والتأمل لما يدور من حوله في العالم، ومن المعروف أن تار من أهم مُخرجي أوروبا، لا سيما دول أوروبا الشرقية بسبب أسلوبيته الخاصة التي يتميز بها عن غيره من المُخرجين من حول العالم، واستغراقه في عالمه الفيلمي الذي يبدو في النهاية مُنفصلا عن العالم المعيش المُحيط به، مُنغمسا في رؤيته وأفكاره؛ مما يجعل تلقي أفلامه ليس بالأمر الهيّن على المُشاهد، اللهم إلا المُشاهد المُتدرب على مُشاهدة السينما ذات الخصوصية الأسلوبية.
تميز المُخرج المجري، واستخدامه للسينما كأداة للتأمل جعلاه صاحب أسلوبية خاصة بالكاميرا الشديدة البطء، المُتأملة لكل ما يدور من حولها، أو الكاميرا ذات الشخصية المُستقلة، المنوّمة؛ حيث تستطيع كاميرا المُخرج أن تسيطر على المُشاهد وكأنها تنجح في تنويمه تنويما مغناطيسيا.
يؤكد لنا الغيطاني على أن تار كان راغبا في دراسة الفلسفة، لكن فيلما سينمائيا وثائقيا- مفقود الآن- قام بصناعته وهو في السادسة عشرة من عمره عن العمالة المُؤقتة في المجر، ووضعهم القانوني هناك أدى إلى غضب السُلطات السياسية عليه، ومن ثم حرمانه من دراسة الفلسفة؛ مما جعله يستمر في صناعة الأفلام ومُمارسة نظرته الفلسفية، بل والنقدية للسياسة الشيوعية من خلالها.
يقول الغيطاني: في أفلام بيلا تار ثمة فيلسوف هارب من عالم الفلسفة إلى عالم السينما، أو سينمائي يفكر بطريقة فلسفية تتميز بالكثير من الحكمة، والتأمل، والصبر على جميع الكائنات؛ الأمر الذي أكسب حركة الكاميرا لدى تار أسلوبية خاصة يختلف فيها عن غيره من صُناع السينما، ويتميز بها عنهم جميعا؛ فالكاميرا هنا هي كائن حي تشعر، وتفكر، وتتخذ قرارها المُنفرد، وتتأمل، وتتلصص، وتراقب الجميع. كائن مُعتز بذاته، قادرة على الفعل، والرفض، والقبول، كائن حريص على ترك مسافة بينه وبين الشخصيات الفيلمية، حتى لكأن الكاميرا هنا تتحول إلى كائن مُضاف، وشخصية من شخصيات الفيلم القادرة على الأداء تماما كأي مُمثل داخل الحدث الفيلمي.
نتيجة لسيطرة هذا الفكر الفلسفي على بيلا تار- وهو ما حُرم منه- اصطبغت جل أفلامه السينمائية بالصبغة الفلسفية مما جعلنا أمام فيلسوف يُعبر عن أفكاره من خلال الصورة؛ الأمر الذي جعل الكثيرين من صُناع السينما يحترمون ما يقدمه من أفلام، وهو التقدير الذي ساد عالم صناعة السينما تجاه المُخرج، وجعله صاحب تيار سينمائي يحاول الكثيرون اتباعه من حول العالم باعتبار أن تار هو رائد صناعة السينما الفلسفية، فضلا عن السينما البطيئة التي تتميز فيها الكاميرا بالكثير من الكسل، وعدم الرغبة في الحركة بسهولة، بالإضافة إلى التمسك والاعتزاز بالتصوير بالأبيض والأسود.
كما يتحدث الكاتب عن موقف المُخرج الأيديولوجي بقوله: إذن، ففي عالم تار السينمائي نحن لسنا أمام موقف أخلاقي- فتار ليس أخلاقيا- بل هو موقف فلسفي في المقام الأول، موقف يشعر بوطأة تواجد الإنسان في الحياة، يتأمل العبء الوجودي الضاغط في عالم من دون إله يمكن اللجوء إليه، أو الاستناد عليه- فالكائنات جميعا في فراغ كامل لا معنى له- ومن ثم فعلى كل كائن أن يتحمل مأزقه الوجودي، وعليه أن يتعامل معه بأسلوبيته الخاصة من أجل الخلاص، وهو الخلاص الذي لا يصل إليه أحد في نهاية الأمر.
سينما بيلا تار من السينمات التي لا يمكن التعاطي معها بسهولة، فهي في حاجة إلى مُشاهد خاص، مُشاهد قادر على احتمال مشاهده الطويلة الأبدية، تلاعبه بالوقت الذي لا ينتهي، وهو الوقت الذي يتم تشييئه حتى إنه يكاد أن يجثم على صدور الجميع.
الوقت لدى تار هو كائن مُستقل بذاته، له كثافة وثقل لا يمكن احتمالهما، قادر على تغيير حياة البشر إلى ما هو أسوأ في غالب الأمر، دافع للجنون، صانع لمجموعة من السلوكيات غير الطبيعية بسبب وطأته، لذا فجميع الشخصيات تحت سطوة الوقت القاسي، الراسخ، الثابت، المُتشيئ، الكثيف وكأنه ذو ثقل، تحاول الدفع بالوقت إلى الأمام بكافة الطرق، رغم أنه لا يتحرك بسهولة مع كل محاولاتهم؛ مما يشعرهم بالكثير من الاختناق، والإحباط، الأمر الذي يصيبهم بالجنون ومُمارسة الكثير من الأفعال التافهة التي لا معنى لها، وإعادة تكرارها بشكل أبدي رغم عدم جدواها لمُجرد تمرير الوقت، أو محاولة دفعه للأمام خطوات قليلة؛ لذا فشخصياته الفيلمية في مُعظمها تتناول الكحول طوال الوقت- ربما لنسيان وطأة الوقت- كما أن البارات من أهم مُفردات العالم الفيلمي لدى تار رغم البؤس المُبالغ فيه الذي يحيطها من جميع الجهات، والفقر الشديد.
يتناول الغيطاني في كتابه سينما المُخرج مُقسما الكتاب إلى خمسة أبواب: في الباب الأول الذي كان بعنوان "في الفيلم التاسع بعد "الواقعة"" يتناول الناقد بالبحث والتحليل حياة المُخرج المجري، والأسباب والظروف، والأيديولوجيات التي أدت إلى تكوينه السينمائي، ولجوئه إلى السينما من أجل التعبير من خلالها، ونظرته الفلسفية التشاؤمية للعالم، وما يدور من حوله، وتأثيره على تيار كبير من المُخرجين الذين اتبعوا أسلوبيته السينمائية، لا سيما في بطئها، ولقطاته الطويلة، وتتلمذ العديد من المُخرجين على يديه، ثم بيانه الذي أطلقه مُعلنا من خلاله توقفه عن صناعة السينما لأنه لم يعد لديه الجديد الذي من المُمكن له أن يقدمه.
في الباب الثاني يتناول الناقد بالنقد والتحليل أفلام المُخرج الروائية الطويلة، وهي تسعة أفلام، بينما خصص الباب الثالث لفيلمه التليفزيوني الروائي الطويل الوحيد لصالح التليفزيون المجري، وفي الباب الرابع تناول الناقد أفلام المُخرج الوثائقية، لينتهي بالباب الخامس الخاص بأفلام المُخرج الروائي القصيرة.
يُذكر أن هذا الكتاب هو التعاون التاسع بين الغيطاني ودار فضاءات الأردنية، وقد كتب الغيطاني في العديد من المجالات المُختلفة، حيث صدر له في مجال الرواية "كائن العزلة" 2006م، و"كادرات بصرية" 2011م، وهي الرواية التي فاز بجائزة ساويرس عنها في عام 2012م، كما كتب في مجال القصة القصيرة مجموعة "لحظات صالحة للقتل" 2008م، و"اللامُنتمي" 2018م.
في مجال النقد الأدبي كتب "زيف النقد ونقد الزيف: احتضار النقد العربي" 2017م، و"الفساد السياسي في الرواية المغاربية" 2018م. كما صدر له كتاب حوارات ثقافية بعنوان "جنة الممسوسين" 2018م.
أما في مجال النقد السينمائي فلقد كتب الغيطاني العديد من الكتب، منها: "سينما الطريق: نماذج من السينما العربية" بالتعاون مع مجموع من النقاد السينمائيين 2007م، و"السينما النظيفة" 2010م، و"غسان عبد الخالق: سيرة سينمائية" 2014م، و"صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما المصرية 1959- 2019م"، وهو المشروع الذي صدر منه جزآن حتى الآن في 2021م، ويُنتظر صدور ثلاثة أجزاء أخرى، وسينما المشاعر المُنتهي الصلاحية: وونج كار واي" 2022م، و"Cinephilia الهوس بالسينما: لارس فون ترير" 2023م.
|