القاهرة 14 مايو 2024 الساعة 12:56 م
كتبت: نضال ممدوح
لم تدفع مصر في القضية الفلسطينية فاتورة الدم الغالية خلال أربع حروب من 48 مرورا بـ 56 و67 وصولا إلى 73 فقط، إنما كان للسينما المصرية موقفها وكلمتها أيضًا، إذ كانت رائدة في تناول القضية الفلسطينية ومن فترة مبكرة، والتي بدأت مع الفنانة "عزيزة أمير" التي أنتجت وكتبت قصة فيلم "فتاة من فلسطين" 1948 بطولة وإخراج محمود ذو الفقار، والذي لعب دور "عادل" طيار في سلاح الجو المصري.
يبدأ الفيلم بمشهد للمهجرين الفلسطينيين داخل قطار يقلهم إلي مصر، وسعاد محمد "سلمى" تبكي الوطن الذي ضاع ووالدها الذي قتل علي يدي العصابات الصهيونية. يستضيفها عادل في منزله وتصير واحدة من عائلته، إلا أنه يرفض الزواج منها بعد أن أصيب في قدمه أثناء قيامه بإحدي الغارات الجوية، إلا أنها تحفزه وتشجعه علي العودة مرة أخرى للحياة ويعالج من إصابته ويرجع لميدان القتال مرة أخرى. اللافت في الفيلم أغنية سعاد محمد" يا مجاهد فى سبيل الله لبيرم التونسى ولحن رياض السنباطى، وفيها تتحدث عن الدفاع عن الوطن والأرض ضد المحتل المغتصب وليس بمعاني الإرهابيين التي رفعت شعارات الجهاد فيما بعد للقتل والتكفير.
لم تكتف عزيزة أمير بهذا الفيلم، فتنتج وتمثل في العام الذي يليه 1949 فيلمها "نادية" من إخراج فطين عبد الوهاب ويشاركها البطولة محمود ذو الفقار، وتدور أحداثه حول نادية (عزيزة أمير) التي ترفض الزواج لتربية شقيقيها الصغيرين، تعمل بالتدريس ونراها في المشهد الأول كيف توعي تلميذاتها بفلسطين الدولة الشقيقة التي لم تتخلَّ عنها مصر: "مكانش ممكن نتخلى عن فلسطين ونسيبها تحارب لوحدها، مش من أخلاق العربي يقفل باب بيته ويسيب أخوه تحت رحمة المغتصب".
كانت نادية نموذجًا للمعلم المصري الذي يخدم فلسطين من خلال طلابه، مثله مثل الجندي الذي دفع دمه خلال أربع حروب وغيره من المصريين. نلاحظ أيضا أن الفيلم طرح منذ تلك الفترة المبكرة الفرق بين اليهودية كديانة سماوية وبين المغتصب المعتدي الصهيوني. فعندما تنضم نادية للانضمام للجيش المصري في فلسطين كممرضة وتقع في أسر عصابة صهيونية، يدور بينها وبين أحد سجانها حوار مفاده أن اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل رغم إنتمائهم لجنسيات عربية خدعوا في كذبة دولة إسرائيل. يقول شفيق نور الدين الذي لعب دور حارس زنزانة نادية: هو أنا أعرف غير العربي، أنا كنت بسرح بقماش على حمار في الصعيد الجواني، عمري ما حد مسني بكلمة، ضحكوا عليا ولاد الحرام وجيت هنا في جهنم، لو اليهود يعرفوا أن الصهيونية مقلب مكانوش يهوبوا ناحية فلسطين".
هاجم النقاد الفيلم واتهموه بالمباشرة على خلفية هذا المشهد الذي قصده صناع الفيلم كرسالة لليهود المصريين أو في أي دولة عربية أخرى لعبت عصابات الصهاينة الدور الأكبر في إقناعهم بالهجرة إلي فلسطين وترك الدول التي ولدوا وعاشوا فيها كمواطنين على قدم المساواة مع المسلمين والمسيحيين.
لم تكن عزيزة أمير وحدها التي انتبهت لدور السينما كقوة ناعمة في معركة العرب مع إسرائيل، ففي عام 1948 تقدم شركة جمال فارس فيلم "أرض الأبطال" فكرة وبطولة جمال وعباس فارس، سيناريو نيازي مصطفى، حوار صالح جودت وعبد الغني النجدي الذي شارك في التمثيل.
انتبه صناع الفيلم مبكرا أيضا لدور الجيوش في صنع الرجال، وكيف تحولت حياة "عادل" الشاب المستهتر المتغطرس من فتى والده المدلل، إلي رجل يدافع عن بلد جاره. ورغم أنه وحيد والديه إلا أنه يتطوع في الجيش هربا من والده الذي ينافسه على إحدى بنات الليل. اهتم الفيلم أيضا بتفاصيل تحول عادل من متعالٍ متكبر الكل يخدمه، إلى مجند يرأسه خادمه السابق "عليوة". يتعرف عادل علي "كوكا" إحدى الفتيات الفلسطينيات، ويشارك في عدة عمليات عسكرية، إلا أنه يفقد بصره نتيجة إصابته بسلاح فاسد من الذي ورده والده للجيش.
كان الفيلم من أوائل الأفلام التي تناولت قضية الأسلحة الفاسدة، وكيف أن إسرائيل تلجأ للحيلة الثلاثية (الجنس، المال، الخمور أو المخدرات) في استدراج عملائها، فوالد عادل بحكم منصبه الحكومي يتحكم في صفقات توريد السلاح للجيش، وهو في الوقت نفسه "زير نساء". في النهاية عندما يعرف أنه كان سببا في فقد ولده الوحيد لبصره ينتحر بالرصاص. انتهي الفيلم بسفر عادل لإجراء عملية استرد بها نظره.
تضمن الفيلم العديد من المشاهد العسكرية الحية التي صورت في أماكنها الحقيقية في أرض فلسطين، وهو ما يؤكده صناع العمل في مقدمة الفيلم حيث أهدوه للقوات المسلحة: "إلى أولئك الأبطال الذين يحرسون حدودنا ويسهرون على سلامة وطننا. لا يسعنا ونحن نقدم أرض الأبطال إلا أن نشيد بمعونة هؤلاء الأبطال الذين تعاونوا معنا صادقين في تصوير المناظر الحربية .. فإلى هؤلاء الأبطال وإلي القوات المسلحة نقدم وافر الشكر للمعونة الصادقة، التي لم يبخلوا بها والتي حققت هذا الإنتاج. صورت المناظر الحربية في ميادين القتال في فلسطين، المشرف العسكري يوزباشي: م.غ ".
وعن قصة للكاتب إحسان عبد القدوس يقدم أحمد بدرخان في العام 1955 فيلمه "الله معنا" بطولة فاتن حمامة وعماد حمدي، وشكري سرحان? وماجدة، وحسين رياض الذي قدم دور رئيس الديوان الملكي في عهد الملك فاروق. في ثلثه الأول يتناول الفيلم حرب فلسطين وبسالة الجيش المصري وبطولاته رغم الخيانة التي تعرض لها من قبل بعض قواده الفاسدين الذين وردوا له الأسلحة الفاسدة، وكيف كانت هذه القضية الرحم الذي خرج منه تنظيم الضباط الأحرار ومحاولاتهم إثارة القضية مع التزامهم بالشرف العسكري.
كما تناول الفيلم بشكل واضح الفساد السياسي في تلك الفترة خاصة الأحزاب تلك التي تدعت أنها قيدت وحوصرت فيما بعد الثورة. فعندما يلجأ الضباط الشبان لواحد من الزعماء السياسيين المعارض "شديد باشا" وقام بالدور أحمد علام لإثارة قضية الأسلحة الفاسدة في إحدي خطبه، يستجيب كنوع من المغازلة السياسية للقصر وساكنيه للحد الذي يدفعه لطرد الضباط عندما يسألونه عما فعله في تلك القضية. استجابة شديد باشا للضباط في أول الأمر لم يكن إلا صفقة سياسية ليسقط الحكومة التي يتطلع لتشكيل مجلسها، وهو ما حققه له القصر الملكي مكافأة على خدماته في المعارضة. تناول الفيلم الآثار الاجتماعية التي خلفتها حرب 48 على المصريين خصوصا من الشهداء الذي فقدتهم أسرهم وكيف تحولت مصائرها، وإن كانوا فخورين بما قدموه من أجل الواجب والدفاع عن أرض فلسطين. كان الفيلم قد صور في العهد الملكي ومنع عرضه بسبب تعرضه للملك ومفاسده.
|