القاهرة 07 مايو 2024 الساعة 11:38 ص
قصة: إدموند باث صولدان (بوليفيا 1967)
ترجمة: أسامة الزغبي
انتهينا للتو من دفن أبي. كانت جنازة مهيبة؛ تحت سماء زرقاء تتناثر بها خيوط فضية، بظهيرة حارقة في صيف قائظ. ترأس الكاهن قداسا مؤثرا أمام التابوت المصنوع من خشب الماهوجني، وبينما كان يبللنا جميعا بماء مقدس، أقنعنا مرة أخرى بأن الحياة الحقيقة تبدأ من الآن بعد التي نعيشها. وضع أشخاص ينتمون للمكان باقات من زهور ناضرة تحت أقدام التابوت، وبعد أن نشفوا وجهوهم بمناديل معطرة، ألقوا بعظات مملة، مبرزين فضائل وشيَم أبي مع الجيران، وحبه وتفانيه لزوجته وأبنائه، والخدمات التي لا تحصى التي قام بها من أجل رفعة القرية. عزفت فرقة موسيقية أغنية (نصف الدائرة)، وهي البوليرو المفضل لأبي: ترحل لأني أريدك أن ترحل/ واستوقفك عندما أرغب/ أعرف أنك تفتقد حبي/ شئت أم أبيت، أنت لي. كانت أمي تبكي، وكذلك إخوة أبي. فقط أختي هي من لم تكن تبكي. كانت تحمل زهرة ياسمين في يدها، تتشممها وهي غائبة نوعا ما. بدت كتجسيد للغرور، بفستانها المكون من قطعة واحدة كأفرول برقبة طويلة كستنائية.
صباح الأمس كان لماريا هيئة مختلفة تماما.
رأيتها، من باب غرفتها الموارب، وهي تشهر سكينًا مخصصًا لتقطيع لحم الخنزير بيدها التي تقبض الآن علي زهرة الياسمين؛ ثم تغرزه في بطن أبي، مرارا وتكرارا، حتى خرجت أحشاؤه ووقع على الأرض. لاحقا، قطعت ماريا بعض الخطوات وهي شبه فاقدة للوعي، ثم توجهت تتلمس مكان السرير، نامت عليه، ولا يزال السكين في يديها، بكت مثل الأطفال، بفجع ويأس شديدين كما لو كانت رأت لتوها شبحا ما. كانت هذه هي المرة الوحيدة التي رأيتها تبكي. اقتربت منها وواسيتها قائلا ألا تكترث، فسأكون بجانبها دائما. انتزعت السكينة من يدها وذهبت لإلقائها في النهر.
قتلت ماريا أبي لأنه لم يحترم أبدا الباب المغلق. كان يدخل أبي لغرفة ماريا عندما تذهب أمي للسوق في الصباح، وأحيانا، بعد الظهيرة، عندما تذهب أمي لزيارة بعض صديقاتها، أو في المساءات، بعد أن يتأكد أن أمي تغط في نوم عميق. من غرفتي، كنت أسمعهم. أسمعها تقول له إن باب غرفتها موصد بسببه، وأنها لا تحتمل أن يستمر في عدم احترام هذا القرار. هكذا حدث ما حدث. تحلت ماريا، رويدا رويدا، بالشجاعة، حتى، في أحد الأيام، تحول سكين تقطيع لحم الخنزير إلى الخيار الوحيد.
هذه قرية صغيرة، هنا كل شيء، عاجلا أم أجلا، يُعرف. ربما كانوا جميعا، في المقابر، يعرفون ما أعرفه، لكن ربما، بسبب تلك العادات الغريبة ولكنها ملزمة في التعامل مع بعضنا البعض في محيطنا، كان لا بد من أن يتصرفوا كما لو كانوا لا يعرفون.
ربما أمي، وهي تبكي، كانت تشعر بالتحرر من عبء ثقيل، وبينما كانت الشخصيات المهمة تمتدح الرجل الذي هو أبي، كانوا يشعرون بالراحة لوجوده تحت الثرى، والكاهن، بينما يعده بالجنة، ربما كان يفكر بالجحيم لهذا الجسد الهش الذي يواريه تابوت الماهوجني.
ربما يعرف كل أهل القرية ما أعرفه، أكثر، أو أقل. ربما. لكن لا يمكن أن أتأكد طالما لا يتكلمون. ومن المحتمل أن يفعلوا بعد أن يجرؤ أحد السكارى على فتح فمه. سيبدأ أحدهم بالحديث، لكن لن أكون أنا، لأني لا أريد أن أكشف ما أعرف. لا أريد لماريا، وهي في طريق عودتها بصحبتي أنا وأمي، وهي تعض على زهرة الياسمين بجبهة متعرقة بسبب حر هذا الصيف الذي يلهبنا، أن تقرر، إغلاق باب غرفتها علىّ، كما فعلت مع أبي سابقا.
|