القاهرة 30 ابريل 2024 الساعة 10:23 ص
بقلم: سماح ممدوح حسن
تمتلك كل حضارة على وجه البسيطة إرثًا عظيمًا من الحكايات الفلكلورية الخرافية، وحضارة المنطقة العربية لديها أهم ذاك الموروث وأثراه. قديما، لجأ الإنسان إلى الأسطورة إما لتفسير مسألة عَجِز العقل عن تفنيدها بطريقة علمية ومنطقية وإما لمواجهة الخوف من أمر مجهول.
وفى كتابه "الأسطورة والمعني" يقول فراس السواح: "تقوم الخرافة على عنصر الإدهاش وتُملأ بالمبالغات والتهويل وتتشابك علائقها مع كائنات ماورائية متنوعة كالجن والعفاريت والأرواح الهائمة".
ورث المصريون إرثاً من الخرافات الفلكلورية لا يزال حاضراً اليوم فى ظل عصر العلم والاتصالات، تماما كما كان طاغيا فى القديم. وهذا الإرث هو السبب الرئيسي فى رواج "أدب الرعب" الذى لا يمثل ظاهرة مستحدثة، لكن الزخم الحاصل فى هذا النوع من الأدب هو الظاهرة الملفتة. فالمُطّلع على المشهد الثقافي المصري الحالي فيما يخص الكتابة، سيلفت نظره رواج وانتشار "أدب الرعب" حتى أنه فاق عددا أغلب الموضوعات والأجناس الأدبية الأخرى. وهذا ما عشناه مع انطلاق الدورة السابقة ال55 من معرض القاهرة الدولي للكتاب.
قديما كان الريف هو منبع الحكايات الفلكلورية الأسطورية التى تستند إليها الكثير من كتابات الرعب فى مصر. فى الريف، حيث أعمل الناس الخيال وتخطوا به حدود المعقول إلى الأسطوري منذ الأزمنة التى لم يكن الإنسان قد توصل إلى تفسير لما يحيط به من ظواهر.
وفى هذا الصدد يقول الباحث "فارس خضر" فى كتابه "طقوس الاسترضاء" إن السبب فى كون الريف منبعا للحكايات الخرافية أنه "على غرار الكثير من المناطق المهمشة يحفل الريف بالكثير من المعتقدات والعادات والخرافات التي فرضت وجودها واستمراريتها لدى الجماعة الشعبية من جيل إلى جيل، نتيجة لأسباب كثيرة متداخلة" منها تلبية حاجة نفسية لدى هذه الجماعة لتفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية.
بالإضافة إلى وقت الفراغ الكبير، قديما، لدى أهل الريف. فعندما يأذن مغيب الشمس للفلاح بإنهاء يوم عمله فى زراعة الأرض، يعود إلى بيته ليستعد لوقت فراغ طويل قبل النوم يحاول ملئه بالأمسيات السامرة التى يُطلق الجميع فيها العنان لإبداعات الخيال. أيضا المساحات الخالية فى الريف أكثر منها فى المدن والتى تمثل المادة الملائمة لصياغة الأسطورة الشعبية للفضاء الذى تهيمن عليه الظلمة، وتكون سبباً أدعى لحياكة المزيد من الأساطير عما يستره دجى الليل.
أما حديثاً، فليس انتشار أدب الرعب بالمستغرب خاصة مع أجيال لا تزال تنشأ على قصص الرعب القديمة التى تقصها الجدات كقصة قبل النوم، أو يرويها الجدود كأنها حقيقة وقعت فى عصر ما، حول نيران الحطب أمام المنازل فى ليالي الشتاء. ومهما تشرّب الجيل من ثقافات مغايرة إلا أنه بطريقة أو بأخرى يسمع هذه القصص الفلكلورية، يسمع أو يشاهدها تتحول إلى أعمال سنيمائية أو درامية ويبحث وراءها. وبذلك يكون أدب الرعب فى مصر مرتبطا بالجذور العتيقة لفعل السرد والحكي البكر الذى امتازت به هذه الجذور.
ومن أهم هذه الحكايات الفلكلورية التى لا تزال ماثلة فى كثير من المناطق الريفية والتى يعرفها القاصِ والدانِ "حكاية النداهة" الحكاية التى لا يزال الكثيرون يؤمنون بها كأنها واقع ملموس عن شبح تلك الشابة الجميلة التى تظهر لعابر سبيل فى أحد الطرق النائية المطلة على مسطح مائي، تغوي المارة بصوتها العذب عندما تنشد أغنية ما، تجتذبهم كأنهم سائرون نياما، حتى تغرقهم فى الماء. وفى الغالب تفسر حكاية النداهة على أنها الفتاة المقتولة غدراً منذ زمن مضى. وعن النداهة صاغ الكثير من الأدباء رواياتهم ومن أشهرهم رواية "النداهة" لأحمد خالد توفيق والذى يصنف فى مصر على أنه عرّاب أدب الرعب. وقد استلهم روايته من تلك الحكاية الفلكلورية المعروفة.
ومنها أيضا حكايات "الجن العاقوت" وهى الأسطورة الاكثر أنتشاراً فى الريف. فما بين حين وآخر تنتشر فى الأخبار حكاية القرى التى تشتعل فيها النيران فجأة دون أسباب وفى منازل معينة فقط لا تطال النار غيرها. والأسطورة تقول أدإن هذه المنازل تُحرق على يد"الجن العاقوت" أي ذاك الجن الذى يغضب على أهل بيتٍ ما ف"يعقت، أي يلقى على بيتهم جمرات النار فتحرقه".
لكن إذا كان الإنسان قديما يجابه ما يجهل بصياغة الخرافة، فما هى الأسباب التى تجعل من أدب الرعب فى العصر الحديث حيث الإنسان المُنعّم بالعلوم والاكتشافات، يحقق كل هذا الرواج والحظوة لدى الكثيرين؟
لو وجدت أسبابا لانتشار أدب الرعب بهذا الكمّ فى مصر حالياً، سيكون أهمها ما يعرف بظاهرة "أحمد خالد توفيق". فالكتّاب الذين يشتهرون الآن بهذا النوع من الكتابة هم من الجيل الذى تربى، فى فترة مراهقته فى الثمانينيات والتسعينيات، على روايات ما وراء الطبيعة التى كان يكتبها أحمد خالد توفيق، ومزج فيها الخرافة خاصة الخرافة من الريف المصري بالتفسيرات العلمية، وهذا الجيل الآن يقوم بما يشبه تسليم الرايات. فعندما كانوا مراهقين قرأوا رعب "العرّاب توفيق"، ومعظمهم الآن يكتبون للمراهقين بالنهج نفسه تقريبا.
سببٌ آخر وهو محور مقالنا، ألا وهو توافر المادة الخام لهذا النوع من الأدب. فمن منا لم يسمع فى حياته أحد أساطير العفاريت وملوك الجان، والجنيات العاشقات للبشر وهذه الخرافة الأخيرة بالذات كُتب فيها العديد من الأعمال الأدبية.
كذلك سهولة قراءة هذا النوع من الأدب. فببساطة يعيش الجيل الحالي فى ظل سرعة جنونية فى كل شيء. المعلومات السريعة الجاهزة، الحياة السريعة. وأدب الرعب لا يحتاج من القارئ الوقوف كثيرا للتفكير فيما يقرأ.
سببٌ آخر وربما هو من الأسباب أيضا التى تشجع الكتّاب على زيادة إنتاجهم من هذا النوع من الأدب، وهو أن أغلب القراء من الفئة العمرية التى تبدأ من عمر المراهقة وحتى أوائل العشرينات. فهؤلاء لا يزالوا يبدأون رحلتهم فى عالم القراءة، يختارون المادة الأكثر تشويقا والأبعد عن الفكرة المغلوطة عن أن القراءة فعل ممل. وقد مر تقريبا كل القراء المخضرمين حاليا بمرحلة قراءة أدب الرعب هذه فى بدايتهم.
أيضا من أهم الأسباب هو تحويل تلك الكتابات إلى أعمال سنيمائية. وهو الأمر الذى يشجع أكثر على قراءة العمل الأدبي خاصة إن كان العمل السنيمائي أو الدرامي نُفذ بشكل مبهر بالتقنيات الحديثة. ولنا فى رواية الفيل الأزرق لكاتب الرعب الأشهر فى مصر"أحمد مراد" مثلاً. فقد كان لأحمد مراد جمهور كبير من قُرّاء أعماله والذين زاد عددهم بشكل أكبر بعد الفيلم الذى أنتج فى جزأين. ورواية الفيل الأزرق أيضا تشابه فى حبكتها العديد من القصص الخرافية فى الموروث الشعبي عن الجن والعفاريت التى تتلبس الإنسان ببعض التعويذات. وكما حققت الرواية أعلى المبيعات حقق الفيلم أيضا نسب كبيرة للمشاهدات.
وسواء أنتُقد أدب الرعب نقدا سيئاً أو جيدا، سيظل نوعا من الأدب النابع من الوجود الإنساني، عن مخاوف الإنسان وتطلعاته وأحلامه التى ربما لم يستطع نيلها فى الحقيقة فرسمها وعاش فيها بالخيال. وسواء عُد هذا النوع من الكتابة إسهاما أدبيا يُثري الفكر أو لا، فلا بد أن نعتبره على أي حال خطوة فى طريق القراءة اللامنتهي.
|