القاهرة 30 ابريل 2024 الساعة 10:11 ص
قصة: أوكتابيو باث - المكسيك
ترجمة: أسامة الزغبي
أحملك كشيء ينتمي لعصر آخر، وُجِد يوما ما بالصدفة ونتحسسه بأياد جهولة. هل أنت جزء من ديانة ما، أم صاحب قوى خارقة اختفت بالفعل، أم حامل لغضابات أو لعنات تلاشت بفعل الزمن، أم إصبع في قدم كمْ عددا من الشهداء؟ يغزونا حضوره حتى يحتل صدارة اهتماماتنا بلا وعي، دون أن يكترث لرفض عقولنا، يُعلن عن جماله ـ المفزع بعض الشيء ـ الخطر على نظام حياتنا المحدود، المبني على خيارات شائكة، كجدار دائري يحمي يقينين أو ثلاثة. هكذا أنت. لقد سكنت صدري وكجرس هوائي تطلق أفكارا، وذكريات، ورغبات. في خفاء وبصمت تطل أحيانا عبر عيني لترى العالم الخارجي؛ حينئذ أشعر بنظرات الأشياء التي تتأملها وهي تتفحصني ويتملكُني خجل لا متناه وخذلان عظيم. لكن الآن، هل تسمعني؟ الآن سوف ألفظك، سوف أتخلص منك للأبد. لا تحاول الهرب. لن تستطيع. لا تتحرك، أتوسل إليك: يمكن أن يكلّفك ذلك ثمنا باهظا. ابق هادئا: أرغب في سماع نبضك الفارغ، وتأْمُل وجهك عديم الملامح. أين أنت؟ لا تختبئ. لا تخف. لماذا تلتزم الصمت؟ لا، لن أفعل بك شيئا، كانت مجرد مزحة. أتفهم؟ أنفعل أحيانا، دمائي حامية، أنطق بكلمات يتوجب علي طلب الغفران بعدها. هكذا طبعي. والحياة. أنت لا تعرفها. ماذا تعرف أنت عن الحياة، وأنت في حبس دائم واختفاء؟ وهكذا يكون من السهل التحلي بالعقل. فبالداخل، لا يوجد ما يزعجك. الشارع شيء آخر: يقومون بركلك، يبتسمون لك، يسرقونك. لا يشبعون. والآن بما أن صمتك يثبت لي بأنك قد غفرت لي، اسمح لي بأن أوجه لك سؤالا. أنا متأكد أنك ستجيب عليه بوضوح وبساطة، مثلما يستجيب المرء لرفيق بعد غياب طويل. من الواضح أن كلمة غياب ليست الأكثر ملائمة، لكن يجب أن أعترف لك بأن حُضورك الذي لا يُطاق يشبه ما يسمونه "خواء الغياب". خواء حضورك، حضورك الخاوي! لا أراك أبدا، لا أشعر بك، لا أسمعك. لماذا تحْضر دون ضجيج؟ تظل صامتا طيلة ساعات، مختفيا في ثنايا ما. لا أظن أنني أطلب الكثير. لا أطلب منك الكثير: علامة، إيماءة صغيرة، حركة عين، اهتماما من النوع الذي لا يكلف من يمنحه شيئا ويملأ من يستقبله سرورا. لا أطلب، أتوسل. أقبل بوضعي وأعرف حدود ما يمكن أن أصل إليه. أعترف بأنك الأقوى والأكثر مهارة: تخترق من فرجة الحزن أو ثغرة الفرحة، تستفيد من النوم ومن السهر، من المرآة ومن الحائط، من القُبلة ومن العبْرة. أعرف أني أنتمي إليك، وأنك ستكون بجانبي يوم موتي وساعتها ستمتلكني. لماذا الانتظار طويلا؟ أحذرك من الآن: لا تنتظر الموت في ساحة المعركة، ولا ميتة مجرم، ولا شهيد. سيكون هناك ألم بسيط، مصحوبا بالهلع المعتاد، وهذيان بسيط، وإشراقات متأخرة بلا عاقبة. هل تسمعني؟ لا أراك، تُخفي وجهك دائما. سأبوح لك بسر ــــ كما ترى، لا أحمل لك ضغينة ومتأكد أنك يوما ما ستحطم هذا الصمت عديم المعنى ـــــ بعد الحياة لسنوات طويلة... على الرغم من شعوري بأنني لم أعش قط، وبأن الزمن هو من عاش بي، هذا الزمن المزدر والقاسي الذي لم يتوقف أبدا، الذي لم يمنحني أية إشارة، وتجاهلني دائما. ربما أكون خجولا بشكل مبالغ فيه، ولم أمتلك الشجاعة لأنقض عليه من عنقه وأقول له: << أنا أيضا موجود>>، مثل الموظف الصغير الذي يستوقف المدير العام بإحدى الطرقات ويقول له "صباح الخير، أنا أيضا ..."، لكن، أمام الإعجاب بالآخر، يخرس الموظف الصغير، لأنه سرعان ما يدرك عدم فائدة إشارته: ليس لديه ما يقوله لرئيسه. هكذا أنا: ليس لدي ما أقوله للزمن. وهو أيضا ليس لديه ما يقوله لي. والآن، بعد كل هذا الاستطراد الطويل، أظن أننا أكثر قربنا لما كنت سأقوله لك: بعد أن عشت سنوات طويلة ـــ انتظر، لا تكن قليل الصبر، ولا تتمن الهرب: يجب أن تسمعني حتى النهاية ـــــ بعد سنوات طويلة، قلت لنفسي: لمن، إن لم يكن له، أستطيع أن أحكي أموري؟ في الواقع ــــ لا أخجل من قوله وأنت لا يجب أن تحمر خجلا ــــ ليس لي غيرك. أنت. لا تظن أني أرغب بإثارة شفقتك؛ وأنا أعلن حقيقة ما، أعضد أمرا ما ليس أكثر. وأنت، من تملك؟ هل تنتمي لأحد كما أنتمي إليك؟ أم تفضل أن يكون السؤال بصيغة، هل لديك شخص آخر كما أنت بالنسبة لي؟ رباه، يمتقع وجهك، تظل صامتا، أتفهم ذلك: اتضح لي أيضا إمكانية أن تنتمي لآخر، والذي بدوره ينتمي لآخر، إلى ما لا نهاية. لا تقلق: لا أتحدث مع غيرك. إلا إذا كنت، في هذه اللحظة، تقول نفس الشيء لشخص ثالث صامت، والذي بدوره ... لا، إن كنت أنت آخر: فمن أكون أنا؟ أعيد عليك السؤال مجددا، أنت، من تملك، لا أحد، سواي. أنت أيضا وحيد، وعانيت من طفولة وحيدة وملتهبة. تحدثك الينابيع كلها، وتطيعك كل الطيور ــــ والآن ... لا تقاطعني. سأبدأ من الأول: عندما عرفتك ــــ نعم، أتفهم جيدا دهشتك وأتنبأ بما ستقوله لي: في الحقيقة لا أعرفك، لم أرك قط، لا أعرف من تكون. حقا. في أزمنة سابقة ظننت أنك ذلك الطموح الذي يشنف به آباؤنا وأصدقاؤنا أسماعنا، بكيان ومعنويات، كيان ومعنويات يتضخمان وينموان بقوة الاحتكاك، حتى يأتي شخص ما بدبوس دقيق ويفجر كيس الصديد الصغير؛ فيما بعد ظننتك تلك الفكرة التي خرجت يوما ما من رأسي منطلقة للعالم: ثم خلطتها بحبي لخوانا، وماريا، ودولورس؛ وبإيماني بخوليان، وأوجوستين، ورودريجو. ظننت بعد ذلك أنك شيء سحيق جدا وسابقا على، ربما كنْتَ حياتي قبل أو أولد. ببساطة، كنت الحياة. أو، من الأفضل، الطاقة الدافئة التي تهب الحياة بعد أن ترحل. كنت ذكرى الحياة. قادتني هذه الفكرة لأخرى: مفادها أن أمي لم تكن رحما بل لحدا، وسكرة موت طيلة تسعة أشهر من الحبس. استطعتُ إبعاد تلك الأفكار. بقليل من التبصر عرفت أنك لست ذكرى ولا حتى نسيان: لا أشعر بأنك من كنت بل من سأكون، ومن أكون الآن.
وعندما أريد استعجالك، تهرب مني، حينئذ أشعر وكأنك غياب. في النهاية، لا أعرفك، لم أرك قط، لكن لم أشعر أبدا بأنني وحيد، بدونك. لهذا يجب أن تتقبل تلك العبارة -هل تتذكرها: "متى تعرفتُ عليها؟"- كتعبير مجازي، كمصدر لغوي. حقا تصاحبني دوما، دائما هناك دائما من هو معي. ولكي أبوح بكل شيء مرة واحدة: من أنت؟ لا فائدة من الاختباء أكثر من هذا. استمرت هذه اللعبة طويلا. ألا تعي بأنني يمكن أن أموت الآن؟ فإذا متّ، لن يكون لحياتك معني. فأنا حياتك ومعني حياتك. أم إنه على العكس: هل أنت معني حياتي؟ تكلم، قل شيئا، هل مازلتَ تكرهني لأنني هددت بإلقائك من النافذة؟ قلتُ ذلك كي أحطم غرورك. وبقيت صامتا. إنك جبان. هل تتذكر عندما سببتُك؟ وعندما تقيأتُ عليك؟ وعندما كان عليك أن تنظر بتلك العيون التي لا تُغمض أبدا كيف كنت أنام مع تلك العجوز الشمطاء والتي تتحدث عن الانتحار؟ أرني وجهك، أين أنت؟ في الواقع، لا شيء من ذلك يهمني. أنا متعب، هذا كل شيء. أشعر بالنعاس. ألا تجهدك هذه المناقشات السرمدية، كما لو كنا زوجين، استمرا بالجدال حتى الخامسة صباحا، وهما متورما الجفون، فوق سرير غير مرتب، يتجادلان بشأن مشكلة وقعت منذ عشرين عاما؟ هيا ننام. قل لي تُصبح على خير، كن لطيفا بعض الشيء. فأنت محكوم عليك بالعيش معي وعليك أن تجتهد في جعل الحياة أكثر احتمالا. لا تهز كتفيك. الزم الصمت إذا رغبت، لكن لا تبتعد. لا أريد أن أظل وحيدا: منذ أن بُحت بمعاناتي وأنا أكثر تعاسة. ربما كانت السعادة مثل رغوة تيار الحياة المؤلم، الذي يغطي أرواحنا بوفرة جسدية. الموجة تنسحب الآن، ولا يبقي شيئا من ذلك الذي جعلنا نتألم كثيرا. لا شيء سواك. إننا وحيدان. أنت وحيد. لا تنظر إلى: أغمض عينيك، كي أستطيع أن أغُمِضهما أنا أيضًا. فلم أزل غير معتاد على نظرتك بلا عيون.
|