القاهرة 30 ابريل 2024 الساعة 10:08 ص
بقلم: عمر أبو القاسم الككلي - ليبيا
يجد المترجم، الجاد، نفسه، وهو يأخذ على عاتقه عبء الترجمة، إزاء مسؤولية أخلاقية ثلاثية الأبعاد. ففي البعد الأول هناك مسؤولية الأمانة إزاء المؤلف الأصلي الذي يتولى المترجم النيابة عنه في "رعاية مصالحه المعنوية" لدى قارئ في لغة أخرى، وهذا يتضمن الأمانة أيضا إزاء العمل الذي يترجمه، الذي أصبح يتمتع بشخصية مستقلة عن المؤلف. وفي البعد الثاني هناك مسؤولية إزاء قارئ هذا العمل في اللغة الجديدة، الذي يتعهد المترجم، ضمنيا، بأنه يقدم إليه ترجمة لا تبتعد عن النص الأصلي إلا بالقدر الإجباري الذي يحتمه اختلاف اللغتين، المترجم منها والمترجم إليها (أي القدر الضروري من الخيانة). أما البعد الثالث، فهو ناظم للبعدين السابقين، ويتمثل في صدق المترجم مع نفسه وتحليه بالنزاهة بالدرجة التي تمنعه من الإقدام على ترجمة ما لا يكون قادرا على ترجمته. على المترجم أن يكون واثقا وهو يترجم، أو وهو ينقح ترجمته، من أنه يفهم، هو شخصيا قبل القارئ، أو باعتباره قارئا، سياق المعنى (ظاهر النص)، وأحيانا حتى سياق الدلالة (باطن النص) في ترجمته الناجزة.
هذا يعني أن المترجم لا بد أن يتسلح بالحذر والفطنة، ويشحذ قواه المعرفية والإدراكية ليتأكد من استواء سياق ما يترجمه. فإدراك السياق هو ما يجعل المترجم يتنبه إلى أن ما استقر في ذهنه من معاني مفردة ما من اللغة التي يترجم عنها لا يتفق وسياق الجملة أو الفقرة التي يترجمها، وبذلك يتوجب عليه العودة إلى القواميس، ثنائية أو وحيدة اللغة، سعيا وراء العثور على المعنى الملائم. وإذا لم يجد المعنى المراد جاهزا في القواميس (وهذا يحدث أحيانا) فإن هذه العودة ستضعه في السياقات العامة لمعاني المفردة، بحيث يمكنه، من ثم، استنباط المعنى الذي كان متواريا. ذلك أن القواميس هي، في كثير من الأحيان، مجرد "جهات استشارية" ترسم الملامح العامة، ويظل على المترجم أن "يجتهد" في اتخاذ القرار الذي يراه ملائما ميدانيا.
وإذن، فالتصدي لعملية الترجمة بدون هذه الرؤية يبيح الحكم على الشخص المتولي لهذا الأمر بانتفاء وجود هذا البعد الأخلاقي عنه. إنه يخل بالأمانة إزاء المؤلف الأصلي والعمل الذي يترجمه، فيشوه العمل الذي يترجمه متفها بذلك المؤلف الذي يترجم له في عين القارئ في اللغة الجديدة، وهو يخل بالأمانة إزاء هذا القارئ الذي وضع فيه ثقته متوقعا أنه سيقرأ عملا من ثقافة أخرى أقرب ما يكون إلى الأصل، فيقع ضحية للتضليل، سواء أدرك ذلك أو لم يدرك، علاوة على أن مترجما من هذا النوع يخل بالأمانة إزاء نفسه.
***
سنأخذ هنا مثالا تصادف أن وقع بين يدينا، وهو إحدى روايات الكاتبة الأمريكية توني موريسون الفائزة بجائزة نوبل للآداب سنة 1993. الرواية عنوانها في الإنغليزية "Sula"(1) وهو اسم فتاة، وعنوانها في الترجمة "صولا"(2).
لنأخذ الفقرة الأولى من الصفحة الأولى في الرواية في الترجمة العربية:
في ذلك المكان، حيث اقتلعت أشجار ست الحسن والعليق من جذورها لإعداد ملعب للغولف في مدينة ميداليون، كان هناك مرة حي مجاور قام على التلال المشرفة على وادي بلدة ميداليون، وقد امتد على طول الطريق إلى النهر، وهو ما يسمى اليوم بالضواحي، لكنه كان يسمى بالقاع عندما كان السود يعيشون هناك، وهو طريق واحدة تظللها أشجار الزان والسنديان والقيقب والكستناء المتصلة بالوادي. اقتلعت أشجار الزان الآن، وكذلك أشجار المشمش حيث كان الأطفال يجلسون وينادون المارة من بين الزهر. وخصصت أموال كثيرة لهدم البنايات العارية الباهتة المتراكمة على الطريق من ميداليون صعودا حتى ملعب الغولف، وسيتم هدم التايم وهاف بول هول حيث كانت تتدلى الأقدام، بالأحذية الطويلة المدبوغة، عن المقاعد. وستدمر كرة فولاذية قصر آيرين للتجميل حيث اعتادت النساء أن تلقي برؤوسهن في المغاسل وتأخذ[كذا] غفوة، بينما آيرين ترغي صابون نو نايل على شعورهن. وسينتزع الرجال، بملابس العمل الخاكية، ألواح مطعم ريبا، حيث تطهو المالكة وقبعتها على رأسها، لأنها لا تستطيع أن تتذكر مكونات الطعام دونها. ص 9
فماذا يقول النص الأصلي؟
In that place, where they tore the nightshade and blackberry patches from their roots to make room for the Medallion City Golf Course, there was once a neighborhood. It stood on the hills above the valley town of Medallion and spread all the way to the river. It is called the suburbs now, but when black people lived there it was called the Bottom. One road, shaded by beeches, oaks, maples and chestnuts, connected it to the valley. The beeches are gone now, and so are the pear trees where children sat and yelled down through the blossoms to passersby. Generous fund have been allotted to level the stripped and faded buildings that clutter the road from Medallion up to the Golf Course. They are going to raze the Time and a Half Pool Hall where feet in long tan shoes once pointed down from chair rungs. A steel ball will knock to dust Irene's Palace of Cosmetology, where women used to lean their heads back on sink trays and doze while Irene lathered Nu Nile into their hair. Men in khaki work clothes will pry loose slats of Reba's Grill, where the owner cooked in her hat because she couldn't remember the ingredients without it. 3
والآن سنقوم بـ "ترميم" ترجمة هذه الفقرة (وليس إعادة ترجمتها) لتبيان مواضع عدم الدقة والخطأ التي وقعت فيها المترجمة:
في المكان الذي اقتلعوا (they tore) فيه رقعا (patches) من أشجار ست الحسن والعليق من جذورها لإفساح مجال (to make room) لـ "ملعب مدينة ميداليون للغولف Medallion City Golf Course"، كان هناك مرة حي مجاور قام على التلال المشرفة على بلدة ميداليون، الواقعة في الوادي(valley town) وامتد وصولا(all the way) إلى النهر. يسمى اليوم الضواحي، لكنه كان يسمى الحضيض(the Bottom) عندما كان السود يعيشون هناك. وقد ربطته بالوادي(connected it to the valley) طريق وحيدة(one road) تظللها أشجار الزان والسنديان والقيقب والكستناء. زالت(gone) أشجار الزان الآن وكذلك أشجار الكمثرى(pear) حيث كان الأطفال يجلسون ويصيحون باتجاه(yell down) المارة من بين الأشجار المزهرة(through the blossoms). خصصت الأموال بسخاء(generous funds) لتسوى بالأرض(to level) البنايات المتقشرة(stripped) الباهتة المتعنقدة(that clutter) على الطريق من ميداليون صعودا حتى ملعب الغولف. سيقومون(they are going) بكشط(to raze) التايم وإحدى(a) قاعات الهاف بول حيث كانت الأقدام في الأحذية الطويلة ذات اللون البني المصفر(tan) تبرز(pointed down) من على عوارض أرجل الكراسي(chair rungs). وستضرب كرة فولاذية قصر إيرين للتجميل( حيث اعتادت النساء أن يسندن رؤوسهن(to lean there heads back) إلى المغاسل ويأخذن غفوة بينما إيرين ترغي صابون نو نايل على شعورهن) وتجعله غبارا(knock to dust). وسينتزع رجال، بملابس العمل الخاكية، ألواح مطعم ريبا للمشويات(Reba's Grill) حيث كانت المالكة تطهو الطعام وقبعتها على رأسها، لأنها لا تستطيع أن تتذكر مكونات الطعام بدونها.
لن نتوقف عند كل موضع من مواضع عدم الدقة والخطأ، ما دمنا قد عيناها في النص، وإنما سنكتفي عند ما نراه أكثر أهمية منها:
فبداية استخدمت المترجمة صيغة المبني للمجهول"اقتلعت أشجار..." في حين أن المؤلفة استخدمت صيغة المبني للمعلوم" اقتلعوا...". وهذه مسألة مهمة، فاختيار المؤلف لمفردة، أو صيغة نحوية ما، لا يكون، أو قلما يكون، اعتباطيا، وإنما هو يسهم، في الغالب، في بناء مناخ العمل ودلالاته. ففي هذا المثال آثرت المؤلفة صيغة المبني للمعلوم لأن الذين اقتلعوا الأشجار معروفون للجميع. المؤلفة لا تسميهم، لأنهم ليسوا معروفين كأشخاص (ولا تهم معرفتهم من هذه الجهة) وإنما توميء إليهم إيماء. إنها تقدمهم كقوة طاغية غاشمة لا تبالي بالبشر والبيئة والمباني، وهي قوة الرجل الأبيض السائد هناك الذي لا يبالي إلا بمنافعه ورفاهيته (إزالة الأشجار، بما فيها المثمرة، ليفسح المجال لملعب غولف، وليس لمستشفى أو مدرسة أو جامعة). والمترجمة ترجمت Bottom بالـ"قاع" وكان الأصح، في هذا السياق، ترجمتها بـ"الحضيض" كي تكون في مواجهة القمة، ما دام الكلام يتم عن تل أو مرتفع، وستظل كلمة"حضيض" محتفظة بالمدلول المجازي التحقيري الذي تتضمنه كلمة" قاع" والذي يشير إلى وضع اجتماعي. لم تنتبه المترجمة أيضا إلى مسائل نحوية مهمة في اللغة الإنجليزية. فهي ترجمت" …a Half Pool Hall " بـ"هالف بول هول" دون أن تنتبه إلى أداة التنكير في الإنغليزية(a) التي يفهم من وضعها في هذا السياق أن ثمة عدة قاعات بهذا الإسم وأن إحداها فقط هي التي دمرت. وفي إطار النحو أيضا ترجمت" tan shoes" بـ "الأحذية... المدبوغة". صحيح أن اللفظة تتعلق بالدباغة، لكن الطبيعي أن تكون الأحذية مدبوغة! ولم تنتبه المترجمة إلى أن المؤلفة لم تستخدم صيغة اسم المفعول" tanned"(التي تعني: مدبوغا أو مسفوعا) وإنما استخدمت لفظة" tan" كصفة تشير هنا إلى لون، هو اللون البني المصفر الذي يمكن أن يتضمن، أيضا، معنى السفع(اكتساب السمار الذي يحدثه التعرض إلى الشمس) الذي يوحي بقدم هذه الأحذية.
في مواضع أخرى من الرواية ترتكب المترجمة أخطاء جسيمة تدل، فعلا، على عدم المعرفة والاستهانة بمهمة المترجم. ففي الصفحة نفسها تترجم جملة" missing around"(ص 4) التي تضعها المؤلفة داخل علامتي تنصيص، ما يدل في السياق على أنها أغنية، بـ"الضياع" في حين أن الترجمة الصحيحة ينبغي أن تكون"التسكع" أو"التصعلك". وتترجم:
He'd have to stand in the back of Greater Saint Matthew's…""(ص 4)
بـ"عليه أن يقف في الخلف من القديس الأعظم ماثيو"(ص 10). فماذا تعني هذه الجملة؟ إذا كان"القديس الأعظم ماثيو" حاضرا المناسبة فإن الشخص المعني سيقف، في هذه الحالة خلفه وليس "في الخلف منه". هذا التشوش في الجملة سببه أن المترجمة لم تنتبه إلى علامة الملكية المتعلقة بالمفرد الغائب('s) التي تعني، هنا، أن الحديث يدور عن كنيسة اسمها كنيسة القديس الأعظم ماثيو! بحيث أن الترجمة، كي تكون مفهومة للقارئ العربي، كان ينبغي أن تكون:"كان عليه أن يقف في نهاية كنيسة القديس الأعظم...". أي كان على المترجمة تحويل إشارة الملكية إلى شيء مملوك.
في الأصل الإنغليزي يرد:
"He wanted desperately to see his own face and connect it with the word "private"- the word the nurse ( and the others who helped to bind him) had called him. "Private" he thought was something secret and he wondered why they looked at him and called him a secret." 10
المترجمة صاغتها كالتالي:
"رغب بقوة أن يرى وجهه وعلاقته بكلمة"عسكري"- تلك الكلمة التي دعاه بها الممرض(وكل الآخرين الذين ساعدوا على تقييده). لقد ظهر أن كلمة عسكري شيء سري، وتعجب لماذا ينظرون إليه ويعتبرونه سرا". 14
فهل هذا مفهوم؟ هل يفهم القارئ، على هذا النحو، سبب استغراب الشخصية المعنية من مناداته بكلمة "عسكري" والعلاقة بين هذه المناداة وكلامه حول السر؟ أنا أجزم أن أي قارئ لا يعرف الإنجليزية، مهما كانت درجة جديته وذكائه، لن يدرك،"سر" هذا الاستغراب.
ينبغي أن نعترف للمترجمة أن هذه النقطة تدخل في ما يمكن وصفه بأنه مما تستحيل ترجمته! وأي مترجم جاد ومدرك لسياق النص الذي يترجمه سيجد نفسه مضطرا، في تقديري، إلى وضع هامش توضيحي. والمعضلة تكمن في ترجمة كلمة(private) التي يستخدمها الممرض هنا بمعنى ويفهمها المريض بمعنى آخر. فالممرض يستخدمها بمعناها العسكري حيث تشير إلى الجندي الفرد الذي لا رتبة له. والمريض، رغم أنه عسكري أيضا، لا يعرف هذا المعنى(ربما لأنه غير مستخدم في الجهة التي جاء منها) ويفهمها بمعناها الأصلي الذي يعني"سر" ويستغرب لماذا ينادونه يا "سر" بدلا من مناداته يا جندي أو يا عسكري.
فكيف كان يمكن التصرف؟:
"رغب بقوة أن يرى وجهه ويكتشف صلته بكلمة"سر"-[هنا كان على المترجمة أن تحيل إلى هامش يشرح الالتباس]. "كان يفكر أن كلمة"سر" تعني لغزا، وتساءل متعجبا لماذا نظروا إليه ونادوه باعتباره لغزا".
في صفحة 80 من الترجمة العربية(ص96 من الأصل) يرد:
"منحتها علامة الوردة التي فوق عين صولا مسحة سرور مجفلة".
النص الأصلي يقول:
" The rose mark over Sula's eye gave her glance suggestion of startled pleasure.".
نص المترجمة يتحدث عن أن"علامة الوردة(هي، بالأحرى لطعة خِلقية على شكل وردة، ويمكن أن تترجم: وحمة) التي فوق عين صولا" منحت صديقة صولا مسحة السرور. في حين أن النص الأصلي يقول:
" وحمة الوردة التي فوق عين صولا منحت نظرتها مسحة..."
في صفحة 140 من الترجمة العربية، الصفحة ما قبل الأخيرة(173 من الأصل) يرد التالي:
" بحزن، وقلب مثقل، ابتعدت نيل عن الجزء الملون من المقبرة". وهي ترجمة وفية لحرفية النص كما ورد في الأصل. ولكن ما معنى"الجزء الملون من المقبرة"؟!
البلدة يسكنها بيض وسود، وأحداث الرواية تجري في بدايات القرن العشرين، حيث ما زالت العنصرية سائدة في أمريكا، والمقصود بـ"الجزء الملون من المقبرة "هنا الجزء المخصص لدفن غير البيض، أي السود. لذا كان على المترجمة إما أن تضع هامشا يوضح هذه النقطة وإما تتصرف في ترجمة الجملة بحيث تصبح "... الجزء المخصص لدفن السود...".
ومثلما ابتدأنا بالفقرة الأولى من الرواية في ترجمتها العربية، نختم بالفقرة الأخيرة:
"تحرك شادراك ونيل في اتجاهين متعاكسين، وكل يفكر بأفكار متفرقة عن الماضي. المسافة بينهما تتسع وكلاهما يتذكر أشياء مضت.
فجأة توقفت نيل.. ارتعشت عينها وحرقتها قليلا.
"صولا؟" همست، محدقة في رؤوس الأشجار.
"صولا؟"
تحركت الأوراق، تقلب الطين، كانت هناك رائحة أشياء خضراء متعفنة. كرة فراء ناعمة انفجرت وتبعثرت مثل بذور الهندباء في النسيم.
" كل ذلك الوقت، كل ذلك الوقت، ظننت أنني أفتقد جود". وضغط الفقدان على صدرها وحنجرتها.
"كنا بنات معا"، قالت وكأنها تفسر شيئا ما، "أو يا إلهي، صولا!" صرخت،
"بنت، يا بنت، بنت بنت بنت".
كانت صرخة أخيرة- عالية وطويلة- لكن دون قرار. وليس لها سقف، بل دوائر ودوائر من الأسى". 141
فلنثبت النص الأصلي:
" Shadrack and Nel moved in opposite directions, each thinking separate thoughts about the past. The distance between them increased as the both remembered gone things.
Suddenly Nel stopped. Her eye twitched and burned a little.
" Sula?" she whispered, gazing at the tops of trees." Sula?"
Leaves stirred, mud shifted, there was the smell of over ripe green things. A soft ball of fur broke and scattered like dandelions spores in the breeze.
' All the time, all the time, I thought I was missing Jude." and the loss pressed down on her chest and came up into her throat. " We was girls together," she said as though explaining something. ' O lord, Sula," she cried, " girl, girl, girlgirlgirl."
It was a fine cry- loud and long- but it had no bottom and it had no top, just circles and circles of sorrow.174
ومثلما فعلنا في المرة الأولى سنرمم ترجمة هذا المقتطف:
"تحرك.................. وكل منهما يفكر أفكارا مستقلة...، وكانت المسافة.... وهما يتذكران الأشياء الزائلة.
...............................................
............................................................
......................كانت هناك رائحة أشياء خضراء متحللة. كرة وبر...............
" دائما، دائما......................." وضغط الفقدان على صدرها ثم صعد إلى حنجرتها.
............................................................
..........................................
كانت صرخة رفيعة........... لكن دون حضيض ودون قمة، كل ما كان هنالك دوائر ودوائر من الأسى".
سنتوقف عند نقطتين فقط من ترجمة السطر الأخير. يتحدث نص المترجمة عن "صرخة أخيرة" وتتحدث ترجمتنا عن"صرخة رفيعة" ونرى أنه من الإنصاف للمترجمة الإشارة إلى احتمال وجود خطأ مطبعي في الطبعة التي اعتمدت عليها(وهو، في الحقيقة أمر نادر الحدوث في الكتب الأجنبية) حيث ترد كلمة"final" أخيرة بدلا من "fine" رفيعة. كما إنه لا بد من تعليل ترجمتنا لـ bottom بالـ"حضيض" بدلا من" قرار" التي هي ترجمة صائبة تماما هنا لأن السطر يتضمن سياقا موسيقيا. ما دعانا إلى هذه الترجمة المخالفة لسياق السطر هو اعتقادنا أن هناك إحالة من قبل المؤلفة إلى اسم الحي الذي رغم وقوعه في قمة التل يسمى الحضيض بسبب سكنى السود له. وترجمنا top(التي كان ينبغي على المترجمة، التزاما بالسياق الموسيقي، أن تترجمها"جواب" وليس"سقف") بـ" قمة" لتلازم القمة مع الحضيض. وما دام نص المؤلفة قد نفى وجود الحضيض، فلا بد أن ينفي وجود القمة، لتعم دوائر الأسى. ومن الطبيعي أنني، لو كنت مترجم هذا العمل، سأوضح هذا التصرف في الهامش.
في ختام هذه المناقشة أريد أن أوضح بأنني لم أقم بمراجعة الترجمة بكاملها، وإنما توقفت، عشوائيا، عند مواضع معينة وضاهيتها بالأصل، فاكتشفت ما اكتشفت، ولا أظن أنه توجد صفحة في هذه الترجمة تخلو من عيب. وما يبعث على الدهشة هو أن غلاف الترجمة يقول:" راجعها: زهير أبو شايب" والتوثيق الداخلي يثبت أنه "راجعها ودققها". فهل تم ذلك حقا؟! تنتابني حيرة فادحة إزاء اعتبار أي الطامتين أشنع: أن يكون السيد زهير أبو شايب قد(راجع ودقق) الترجمة فعلا، أو أنه لم يفعل؟؟؟؟!!!!
***
من المؤكد أن هناك ترجمات كثيرة لأعمال إبداعية وفكرية يغيب عنها الإحساس بالمسؤولية التي تحدثنا عنها، وهذا يملأ القلب بـ"دوائر الأسى" على ما يتعرض له بعض المؤلفين وأعمالهم من تشويه وتتفيه على أيدي بعض مترجمينا، وكذلك على ما يتعرض له القارئ العربي العادي من إحباط وتضليل. وأقول القارئ العادي لأن القارئ المثقف المتمرس يستطيع الحكم على جودة أية ترجمة، من أية لغة، منذ الصفحات الأولى. فنحن نعجب بترجمات خليفة التليسي، وعلي فهمي خشيم، ووهبي البوري، ومنير بعلبكي، وسامي الدروبي، وعبد الغفار مكاوي، وأسعد حليم، وعفيف دمشقية، وممدوح عدوان، ونوفل نيوف، وصالح علماني ، وغيرهم، ليس لأننا ضاهينا ترجماتهم على الأصول التي ترجموا عنها، وإنما لأنها شدتنا بتماسكها ووضوحها وجمالها وجعلتهم بالنسبة إلينا "علامات" جودة موثوقة.
(1) Toni Morrison. Sula. Vintage Books. London. 2005
(2) توني موريسون. صولا. ترجمة: أمل منصور، مراجعة: زهير أبو شايب. سلسلة روايات عالمية مترجمة. الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن، عمان. 1995
|