القاهرة 17 ابريل 2024 الساعة 04:41 م
بقلم: أحمد محمد صلاح
يقول أفلوطين في كتابه الذي ترجمه الكندي ونُسب خطأ إلى أرسطو وظل العرب فترة طويلة ينسبونه إلى آخر: "إني ربما خلوت بنفسي، وخلعت بدني جانبًا، وصرت كأني جوهرٌ متجرِّد بلا بدن، فأكون داخلًا في ذاتي، راجعًا إليها، خارجًا من سائر الأشياء، فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعًا. فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء والضياء ما أبقى له متعجِّبًا بَهِتًا، فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الفاضل الشريف الإلهي، ذو حياة فعَّالة. فلمَّا أيقنت بذلك ترقَّيت بذاتي من ذلك العالم إلى العالم الإلهي، فصرت كأني موضوع فيه، متعلِّق به، فأكون فوق العالم العقلي كله، فأرى كأني واقفٌ في ذلك الموقف الشريف الإلهي، فأرى هناك من النور والبهاء ما لا تقدر الألسن على صفته ولا تعيه الأسماع. فإذا استغرقني ذلك النور والبهاء، ولم أقوَ على احتماله، هبطت من العقل إلى الفكرة والرؤية، فإذا صرت في عالم الفكرة والرؤية حجبت الفكرة عني ذلك النور والبهاء، فأبقى متعجِّبًا كيف انحدرت من ذلك الموضع الشامخ الإلهي، وصرت في موضع الفكرة".
واذا كانت تلك " الفكرة" هي ما بدأ به متصوفة الأديان في انتهاجها باعتبارها مقاربة وبشدة إلى فكرة التعبد، والزهد والورع، والحب الالهي، وهو ما يظهر جليا في كتابات العديد من فلاسفة العصور الوسطي وخاصة من المسلمين، إلا أن ما يفسر اللجوء إلى تلك "الفكرة" هو فلسفة أفلوطين القائمة على فلسفة الواحد.
ويقول الأهواني في كتابة المدارس الفلسفية: "الواحد في قمة الوجود، وأعلى منه، وعن «الواحد» يصدر العقل، وعن العقل تصدر النفس، وهكذا يبدأ أفلوطين بثالوث متدرِّج في القيمة، على رأسه «الواحد». ومن هنا كانت فلسفته مختلفةً عن أفلاطون وأرسطو. أمَّا مفهوم «الواحد» عنده فليس واضحًا متميِّزًا؛ فهو تارةً الله، وهو تارةً أخرى الخير، وهو تارةً ثالثةً الأول. مهما يكن من شيء، فإن «الواحد» أعلى من الوجود.
إذن كيف جاء الوجود عن «الواحد»؟ أول موجود صدر عن «الواحد» هو العقل، فاض عنه لأنه صورة من «الواحد»، أو شبح له، ثم يصدر عن العقل النفس التي هي صورة أدنى من العقل.
كل ذلك كان في كتابة الذي جمعه فرفريوس الصوري بما يعرف بتاسوعات أفلوطين، وهي مجموعة من النصوص المنسوبة إليه جمعها تلميذه فرفريوس الصوري، وتتكون من أربع وخمسين مقالة متفاوتة في الطول، علي ست مجموعات، كل مجموعة مؤلفة من من تسعة أقسام، من هنا كانت لفظة تاسوعات، وقد عرفها العرب باسم "الربوبية" في القرن الثالث الهجري، ونسبت إلى أرسطو بالخطأ كما أسلفنا، وقد صحح ذلك عبد الرحمن بدوي في كتابه أفلوطين عند العرب، ونَقل الكتاب من اليونانية إلى العربية الدكتور فريد جبر.
وهذه التاسوعات كتب فيها أفلوطين كل أفكاره عن مفاهيم "الواحد" والنفس، التصوف واللاهوت الأفلوطيني، الخير، الشر، الغنوصية، الأخلاق، الطبيعة، وغيرها من الأمور الفلسفية التي استندت عليها فيما بعد الفلسفة والتصوف المسيحي، وأيضا لو قلنا التصوف في الإسلام.
قال علي سبيل المثال في التاسوعات، متحدثا عن خلود النفس بعد أن قدَّم أدلةً جديدةً خلاف أدلة أفلاطون التي ذكرها في محاورة فيدون، فقال:"إن النفس ليست بجرم وإنها لا تموت ولا تفسد ولا تفنى، بل هي باقية دائمة"، وإن النفس النقية الطاهرة التي لم تُدنَّس بأوساخ البدن هي التي إذا فارقت البدن تعود إلى الجوهر النفساني الأعلى، أمَّا التي تتصل بالبدن وتخضع لشهواته، فإذا فارقت لم تصِل إلى عالمها إلَّا بتعبٍ شديد. ومعنى ذلك أن النفس -كما ذكرنا من قبل- متوسِّطة بين عالم العقل وعالم الهيولى، فإذا شُغِلَت بالنظر العقلي اتصلت بعالم العقل، وإذا انغمست في الشهوات هبطت إلى عالم الهيولى. وهذا هو رأي فرفريوس كذلك، إلَّا أنه بدلًا من الحياة العقلية الصرفة يُنادي بممارسة العبادات والطقوس وطهارة النفس بالزهد والامتناع عن الشهوات.
ويقول الأهواني: "وكان أفلوطين مثل معظم الفلاسفة الأقدمين يُميِّز بين العالم المحسوس والمعقول، ولكنه تميَّز عن السابقين بمنهجه الجدَلي الذي يتأمَّل في باطن النفس ليصعد من ذلك إلى عالم العقل، وفي ذلك يقول: «إن من قدر على خلع بدنه، وتسكين حواسه ووساوسه وحركاته، قدر أيضًا في فكرته على الرجوع إلى ذاته، والصعود بعقله إلى العالم العقلي»،
فأفلوطين كما نرى لا يخلط بين النفس والعقل، ولا يقول إلَّا بالتأمُّل والنظر، أمَّا فرفريوس فإنه يشترط فضائل عمليةً من زهدٍ وامتناع عن أكل اللحوم وغير ذلك، كي تصعد النفس إلى عالم المعقولات. ويبدو أنه كان يقول «إن ذات النفس تصير هي المعقولات»، ولذلك اعترض عليه ابن سينا فقال: «فهذا من جملة ما يستحيل عندي، فإني لست أفهم قولهم إن شيئًا يصير شيئًا آخر، ولا أعقل أن ذلك كيف يكون، وأكثر ما هوس الناس في هذا هو الذي صنَّف لهم «إيساغوجي»، وكان حريصًا على أن يتكلَّم بأقوال مخيَّلة شعرية صوفية يقتصر منها لنفسه ولغيره على التخيُّل، ويدرس أهل التمييز على ذلك كتبه في العقل والمعقولات وكتبه في النفس».
ومات أفلوطين وخلفه تلميذه وناشر التاسوعات فرفريوس الصوري الذي تمتَّع بشهرة واسعة وسمعة طيبة، وحضر عليه كثير من الطلبة منهم «يامبليخوس» الذي يُعد من أشهر الأفلاطونيين المحدثين، وقد عُرف فرفريوس في العالم العربي منذ عصر الترجمة، واستمرَّ يُؤثِّر في الفلسفة العربية بكتاب له يُسمَّى «إيساغوجي» فإذا كان العرب قد جهلوا أفلوطين بسبب ذلك الخلط الذي وقع في ترجمة كتابه، فقد عرفوا تلميذه معرفةً وثيقة، وقبلوا بعض آرائه ورفضوا بعضها الآخر.
له مؤلَّفاتٌ كثيرة منها «فلسفة الكهانة» الذي يُصوِّر فيه العبادات الدينية في هياكل الوثنيين بحسب ما كانت تُمارس عند المصريين والكلدانيين والسريان، ومنها «صور الآلهة»، الذي يُدافع فيه عن الوثنية ويُبيِّن أن عبادة الأصنام لا تنطوي على كفر كما يزعم المسيحيون واليهود، لأنها رموزٌ محسوسة تُقرِّب إلى الإله، وله كتاب «الرد على النصارى» يبدو أنه كتبه بدافع سياسي لأن الإمبراطور في روما أصبح يخشى تزايد قوة المسيحيين، إلى جانب المحنة التي كانت الإمبراطورية تمرُّ بها من شيوع البؤس والفقر والخراب، وتهديد الولايات بالانفصال وانقضاض البرابرة على أطراف الإمبراطورية.
وهكذا اختلفت فلسفة أفلوطين عن مسار الفلسفة اليونانية القائمة على العقل، بالارتكاز على الدين المستند إلى الإيمان، وله كذلك رسالة «في الرد على أنابو» وهو كاهن مصري، يرد فيه على عقائد قدماء المصريين مُعليًا شأن الفلسفة.
|