القاهرة 16 ابريل 2024 الساعة 10:17 ص
بقلم: د. هويدا صالح
إن التسامح وقبول الآخر صفتان ضروريتان لمجتمع متنوع، مجتمع قادر على أن يحتوي كل مكوناته الثقافية، ويتيح لها فرصًا إنسانية متساوية للتعايش، للتعدد والتنوع، فلا يوجد في تاريخ البشرية الحديث مجتمع قام على صفاء العرق، ونقاء النوع، بل ثمة تعددية تصبغ كل المجتمعات الإنسانية على مرّ التاريخ.
ويخلط البعض بين المفهومين، ويعتبرهما مرادفين لمعنى واحد، أو يعنيان الشيء نفسه، لكن في الحقيقة ثمة فرق في المعاني والدلالات التي يمكن أن تتولد في ذهن المتلقي حين يستمع إلى المفردتين في سياق واحد متصل أو حتى في سياقات منفصلة، فالتسامح هو قدرة الإنسان على تحمل وجود آراء أو سلوكيات يختلف معها كلية ولا تعجبه ولا يوافق عليها.
أما القبول فيشير إلى شعور أكبر باستقبال حرية الآخرين ليكونوا أنفسهم، أو بمعنى آخر هو قدرة المرء على الموافقة على احتواء شخص أو شيء لا تحبه، دون احتجاج ودون محاولة تغييره. وهناك نوعان من القبول، قبول الذات والقبول الاجتماعي. قبول الذات هو رضا الفرد عن نفسه، في حين أن القبول الاجتماعي هو قبول الاختلافات والتنوع بين الآخرين في المجتمع.
بمعنى آخر التسامح هو الاستعداد للتوافق مع وجود آراء وسلوكيات لا نحبها، ونختلف معها، لكننا نمتلك موقفًا محايدًا وموضوعيًّا تجاهها، مهما كانت هذه الاختلافات ومدى تخوفنا منها، نتسامح في وجودها، بل ندافع عن حق أصحابها في الاختلاف مهما تكلف الأمر. وقد تكون هذه الاختلافات في الدين، العرق، الجنس، الثقافة، التعليم، الأيديولوجيا والمواقف الفكرية، وما إلى ذلك.
وبما أن القبول يعني موافقة المرء على كل ما يختلف معه دون محاولة تذكر لتغييره، فمن هذه الناحية القبول يشبه التسامح، رغم أنه ليس مرادفا له؛ لأن القبول يتجاوز التسامح.
ومن المهم للحكومات والشعوب أن تضع استراتيجية للتسامح ورؤية ونهجا فكريا يحترم التعايش والتعدد والتسامح والمواطنة كقيم إنسانية عليا دعا إليها الدين الإسلامي عبر الخطاب القرآني وخطاب الحديث النبوي، تحقيقا لإنسانية الإسلام ووسطيته التي تمنع التطرف والعنصرية ضد أي مكون ثقافي من مكونات المجتمع الثقافية.
تناول الفلاسفة موضوع التسامح في خطابهم الفلسفي، فنجد فولتير يقول: "قد أختلف معك في الرأي، ولكنّي على استعداد لأن أموت دفاعًا عن رأيك"، كذلك يرى الفيلسوف الفرنسي إدجار موران أن التسامح يقاوم اعتلال الحضارة الإنسانية التي تتداعى، فقد :"أدّت بالإنسان المعاصر إلى منحى الضوضاء والأسلحة والنزاعات وأنماط تحررية زائلة وانقلابية ومضايقات فظيعة وتخويف سياسي وقسوة بشرية تمزّق القلب".
وفي ظل العولمة والانفتاح أصبح العالم قرية صغيرة، وفي ظل كثرة النزاعات التي ضربت المجتمع الدولي كله، وقسمت قواه لغرب وشرق، ودول غنية ودول فقيرة، وعالم أول وعالم ثاني وثالث ..إلخ بدأت مناقشة فلسفة التسامح مجددا، فثمة عولمة تطالب بالسلم والديمقراطية والحرية والتسامح.
وقد ناقش هيجل مفهوم التسامح في كتابه" فينومينولوجيا الروح"، حيث يرى أن المبدأ الجوهري الذي يكتنف ماهية التسامح هو الاعتراف، فلا يمكن البتة تصور موقف تسامح بين الذوات البشرية إلا من خلال الاعتراف المتبادل؛ فالطرفان يعترفان بحقوق بعضهما البعض. لا نكران لحق على حساب الآخر.
وقد عمّق الفيلسوف الألماني أكسيل هونيث دلالة الاعتراف، وربطها بالأبعاد السوسيولوجية والعلاقات المجتمعية، لأن هذه العلاقات تنحو إلى إحقاق الاعتراف المتبادل من خلال الاعتراف بحق الآخر في الوجود؛ مما يسمح بوجود التفاعل الاجتماعي، ويحد ذلك من التناحر الاجتماعي وصور الازدراء والاحتقار.
وقد اتخذ الفيلسوف هنري برجسون الذي جسّدت فلسفته نداءً روحيًا مشوبًا بنبرة المحبة والتسامح من قيمة الأخلاق مثلا أعلى يقود الإنسانية إلى الانفتاح الكوني، ناقما على أنماط حياتية رثة، تشابه كثيرا حشود النمل والنحل، ويجبلها الضغط والقسر والانغلاق، ومبدأ هذه المجتمعات هو الإلزام، وسيطرة الأنا الجمعي؛ وهي نفسها الأنموذج الذي ساد في المجتمعات البدائية، حيث يسود الظلم والقسر والازدراء والعنف الطائفي القبلي وتضيع معه سبل التسامح والمودة. ويقول هنري برجسون معلقا على مجتمعات الانغلاق والتقوقع: "كانت الحياة الاجتماعية مثالا غامضا كامنا في الغريزة والعقل على السواء، فتراه يتحقق على أكمل صورة في خلية النحل أو قرية النمل".
ولم تكن السوسيولوجيا الدينية بعيدا عن مناقشة مفهوم التسامح، فنرى الفيلسوف جون هَروود هيك، يقدم مساهمات في فلسفة الدين، ومساهمات في أبستمولوجيا الدين والتعددية الدينية.
وأكد هيك على أن إشكالية التعددية الدينية هي إشكالية معاصرة، فرضها الوعي المتزايد والمعرفة بأديان العالم الكبرى، وكذلك بحكم الاحتكاك الواسع والدائم بين أرباب الديانات المتعددة. هذا الوعي تولّد عنه ضغط وحرج بين العقائد والملل في العالم، وبالخصوص تلك التي تدّعي حيازة الحق والنجاة والإيمان؛ وهو ما تمخضت عنه صراعات وحروب دامية متجاوزة بذلك لواقعها التاريخاني وتفوق وضعها الماثل، ليستشري الصراع تحت عنوان كبير "صراع الحضارات" و"الحروب الصليبية" وغيرها من مصطلحات لصراعات نشأت على أسس دينية.
"كما يؤكد كارل بوبر على أن البحث عن الحقيقة والدنو منها عبر النقد المتبادل، لا يكون ممكنا من دون وجود درجة كبيرة من التسامح المتبادل. فمن السهل علينا معا أن نكون مخطئين، والناس جميعا قد يظلون لفترة طويلة من الوقت متفقين حول العديد من النظريات الخاطئة... بل وغالبا ما يكون الاتفاق نتيجة للخوف من اللاتسامح، بل وحتى من استشراء العنف.
كذلك لم يكن مفهوم التسامح بعيدا عن وعي فلاسفة المسلمين، حيث تبنوا مبادئ التسامح واللاعنف وقبول الآخر المختلف، وهذه المبادئ تبناها الإسلام ونجدها في خطابهم بصورة واضحة أو مضمرة، فهي بمثابة الافتراضات العامة التي يسلم بها، ونجدها عند الفارابي وابن رشد والعامري وغيرهم. ونجدها أيضا عند علماء الكلام وبخاصة في منهج المناظرة الذي طوروه. فهذا المنهج يقوم تماما على تلك المبادئ كذلك، وبذا تكون مبادئ التسامح قد أسست فلسفيا وكلاميا.
تبنى العلماء مبادئ التسامح كذلك، وحكمت خطابهم، فقد كانوا يدركون أن الخطأ أمر حتمي لا فكاك منه، وبتعبير ابن الهيثم ما عصم الله العلماء من الزلل. ومن هنا كان العلم يقوم على إبعاد الأخطاء في كل عصر ويضيف اللاحق على السابق، وهكذا الحقيقة لا يصل إليها رجل واحد بنفسه، بل نحاول الاقتراب منها بقدر الطاقة؛ مما يؤكد على قيمة التسامح كقيمة عليا ترقى بالمجتمعات وتخفف من غلو التوحش والعنف وإنكار حقوق الآخرين.
لذا تسعى المجتمعات السوية إلى أن تنتصر للتسامح وقيم القبول والتعدد والتعايش، واحترام التعدد والتنوع، كي لا يجور مكون ثقافي على حقوق المكونات الثقافية الأخرى. فنحن نتمنى أن تصبح القيم والمبادئ التي تنتصر للإنسانية والتسامح وقبول الآخر؛ سائدة، بل ملزمة للجميع، فاحترام قيم التعددية، وعدم الدخول في جدل وصراع طائفي تحت أي سبب يجعل المجتمعات سوية ومتصالحة مع مكوناتها الثقافية، لأن التعدد والتنوع والاختلاف والتفاوت هي السمات الطبيعية للوجود الإنساني.
|