القاهرة 02 ابريل 2024 الساعة 08:54 م
بقلم: إبراهيم المليحي
حددت موسوعة برنستون للشعر والنّظريات الشّعرية مفهوم الرّؤيا بالتّعريف الذي جاء فيه: "كانت الرّؤيا الكلمة المفضّلة في مفردات الشّعراء، لكنّها لم تشع في النّقد إلا في الفترة الحديثة. وهي كلمة مفعمة بالغوامض والإضافات المعنوية التي غالبًا ما تولّد تناقضات في السّياقات التي تستعملها. هناك رؤيا العين المجردة، وثمة رؤيا كولروج المسلحة، وهي إدراك تقوده وتؤيده ملكة عقلية عليا. وهناك رؤيا الاستحالة والكشف _ التنبؤ _ والرّؤيا البهيجة. والرّؤيا توحي بالمحسوس الحي كما توحي أيضًا بالنّموذج البدئي، والمثالي، والرّوحي".
ورؤية العالم تتيح لنا قراءة النص ضمن السياق الثقافي الذي يحيط به، صحيح أن النقد السياقي يقارب كل ما يحيط بالنص الأدبي من سياقات ثقافية وتاريخية ومعرفية، بل وتتدخل السيرة الذاتية للمبدع في مقاربة هذا النص، ومن ثم" كلما اقترب النص اقترابًا دقيقًا من التعبير الكامل المتجانس عن رؤية للعالم عند طبقة اجتماعية، كان أعظم تلاحما في صفاته الفنية "(1).
فرؤية العالم تهتم بأن يرصد المبدع التغيرات السوسيوثقافية التي تطرأ على مجتمع ما، وتكشف عن مدى قدرة هذا المبدع على التعبير عن الطبقة الاجتماعية التي تعايش واقعًا معينًا.
لكن هذه الرؤية ليست وليدة الذات الفردية للمبدع فقط، بل هي وليدة الذات الجمعية في علاقة الأنا (الجمعية) بالآخر، أيًا كان هذا الآخر، فلا شك أن "تجربة شخص واحد هي قصيرة جدا، وبالتالي لا تستطيع خلق بنية عقلية.. هذه البنية لا يمكن أن تكون إلا نتيجة نشاط مشترك لعدد مهم من الأفراد يوجدون في وضع متشابه "(2).
إذن رؤية العالم ليست رؤية فردية تعتمد فقط على ذات المبدع، بل رؤية جماعية لا ترتبط بالفرد بقدر ما ترتبط بواقع مادي معين يتمظهر بصفة أولية لدى الجماعة لكن المبدع يشكلها في نهاية المطاف داخل قالب فني أو فلسفي مشابه لذلك الواقع.
إن المبدع وهو يكتب نصه الإبداعي إنما يعبر عن ذائقة فردية تربت في ظل ذائقة جماعية عامة، فالمبدع لا ينفصل عن الجماعة الشعبية التي تشكل وعيه فيها، لذا يصبح معبرًا عنها، متحدثًا بشكل أو بآخر بصوتها، وربما يفسر هذا فرحة القبيلة العربية قديما حينما يولد فيها شاعر، ويتساءل الطاهر لبيب عن فكرة العلاقة بين الذات الفردية والذات الجماعية، وكيف أن الذات الفردية تتربى بين ذات جماعية أو جماعة شعبية بحسب التعبير السوسيولوجي، فهل" يمكن مثلا وبصفة علمية إثبات أن نفسية جميل بثينة هي التي جعلت من شعره شعرًا عذريا ؟ كثيرًا ما ذهب مؤرخو الأدب في هذا الإتجاه (...) وأمام صعوبات كهذه يكون أيسر وأقرب إلى الدقة بكثير تحديد رؤية عذرية ينتمي إليها جميل، وهي رؤية مجموعة من الناس عاشت وضعًا تاريخيًا معينا وبحثت له عن حلول معينة بطرق معينة "(3).
ويرى لوسيان جولدمان صاحب "رؤية العالم أنه" كلما كان العمل كبيرًا، كلما كان شخصيًا، لأن الفردية الاستثنائية والفنية والقوية، هي وحدها القادرة على أن تفكر أو تعيش رؤية للكون حتى منتهى عواقبها، بينما تكون هذه الرؤية في طور التكون وحديثة التبلور في وعي الفئة الاجتماعية"(4).
ولم تكن البنيوية التكوينية وجولدمان أول من قال برؤية العالم، فقد طرح هذا المفهوم الكثير من الفلاسفة، فنجد إمانويل كانط (1804)رأى أنها "العالم كما يبدو -العالم في ذاته" وهي كما قال ديلتاي(1911) "تفسير العالم والتفاعل معه".
إذن لا شك أن رؤية العالم، هي المحور الرئيسي الذي تنبني عليه البنية الدلالية والقيمية للنتاج الأدبي، فهي عبارة عن جسر يجمع بين قيمة الشكل والمضمون داخل النص الإبداعي.
|