القاهرة 02 ابريل 2024 الساعة 08:46 م
كتبت: سماح ممدوح حسن
يتناول الروائي المصري "يحيى صفوت" في الجزء الأول من روايته "دفاتر ناعوت" والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية. محورين حيويين. أحدهم صناعة بشرية، والآخر ما أتى إلا بالخوف البشري الفطري من المجهول.
فأما المحور الأول والذى لم يأت إلا نتيجة لما اخترعته البشرية من قوة سلطوية ورقابية تعددت أشكالها ومغازيها وطرق ممارستها، في هذه الرواية يتناول الكاتب كيف أن البعض، من كل جنسية ودين ومن خلفيات حياتية متنوعة، رأوا أن لديهم الحق في تقرير مصير البشرية. رأوا أن لزامًا عليهم اختيار من يعيش ومن يموت، بالحجة التي لا يستخدم المستبد غيرها وهي أنني الأكثر فهمًا لكل شيء من الآخرين لذا أنا مَن سيقرر نيابة عن الجميع". وقد عبر النص الروائي عن هذه الفكرة بشخصية "المايسترو، أو عازف الأقدار" ذلك الشخص الذى يرتكب جرائم يدبرها كأنها حادث ليُهلك عشرات الأرواح ممن لا ذنب لهم إلا أنهم تواجدوا في ذلك المكان الذى استهدفه ذلك الطاغية. وحجته في ذلك أنه يقتلهم ليرحمهم.
القتل الرحيم، هو المبدأ الذى استند عليه المايسترو في الرواية واتخذه ذريعة لقتل الأبرياء. ففي "محطة مصر" فجّر المايسترو القطار المنتظر على الرصيف بمن فيه من ركاب، أرقّاء الحال فقراء وضعفاء، وكان يود بذلك، بحسب مبدأه أن يرحمهم من فقرهم، ولم يكتف بهذا بل ذهب إلى المستشفى ليُجهز على من ظل حيا منهم يحاول الأطباء إسعافه. أيضًا ارتكب جريمة إغراق المركب النيلي لنفس السبب. حتى إنه قتل أبناء السيدة التي كانت تأويه فى بيتها عندما اشتكت له أنهم تلهوا عنها بالحياة ولا يهتمون بها، فأخذ دور المحاسب الأخلاقي للناس، أو حتى أخذ دور الإله في معاقبة البشر على آثامهم.
لم يكن مبدأ القتل الرحيم الذى تبناه المايسترو في الرواية مبدأ حديثا. فأهل اسبرطه في القديم كانوا يقتلون الأطفال المولودين بتشوهات أو عيوب خلقية. كذلك كانوا يقتلون الطاعنين في السن. أيضا أوضح أفلاطون في جمهوريته "كتاب جمهورية أفلاطون" أن الطاعنين في السن كانوا يُدعون إلى وليمة كبيرة جماعية ويسمم الطعام فيها وقال"لا يحق لأي مواطن في دولة متمدنة أن يبقى حياته بين المرض والأدوية، وأن يتم سن قانون واجتهاد يوجب تقديم العناية للمواطنين الأصحّاء جسما وعقلًا، أما الذين تنقصهم سلامة الأجسام فيجب أن يُتركوا للموت".
أما المحور الثاني للرواية هو الهاجس الذى طالما أرّق البشرية منذ اكتشافهم للمصير المحتوم لكل حي وهو "الموت" أين نذهب بعد الموت؟ ماهية الروح؟ هل الوعي البشري بذكرياته بخبراته المكتسبة طوال الحياة كل هذا سيصير ترابًا بعدما نموت وندفن ونتحلل. أم أننا سنحيا في بُعد آخر أو بطريقة لا نعلمها، بنفس كياننا المُعاش حاليا؟
هذا هو المحور الذى مثله في الرواية الدكتور "سليم" الذى فجع فى موت أخيه التوأم الذى لا يعرف كيف حدث بهذه الصورة الغرائبية. وفى تلك السنة التى توفى أخيه قرر أن يغير تخصصه فى كلية الطب إلى طبيب أمراض المخ والأعصاب لكنه لم يكن مجرد طبيب، بل كان عالما يضاهى علماء نوبل ممن يحاولون الوصول إلى ما لم يطرأ على ذهن البشرية، كان يريد فك لغز الموت، كان يريد أن يعرف مصير أحبابه بعد الموت، وأين ذهب أخوه؟
وفى هذه الجزئية من الرواية، استعان الكاتب بشخصية الروائي الإنجليزي أرثر كونان دويل، والذى قضى فى الحقيقة عشرات الأعوام يبحث فى الموضوع نفسه واستمر عشرات السنوات يُجري تجارب، وهو الذى كان طبيبا أيضًا، تجارب فى تحضير الأرواح، فهو أيضًا لم يهنأ له بال حتى عرف مصير مَن ماتوا. وقد وثق كونان تجاربه هذه في كتاب بعنوان "الوحي الجديد"، وقد ترجم إلى اللغة العربية بعنوان حقيقة تواصل الأرواح مع الموتى.
فقد تشارك بطل الرواية هنا مع آرثر كونان دويل في الهاجس نفسه، ماهية الروح وأين سيصل بنا الموت، هل سنصير كما عرفنا من المرجعيات الدينية نموت ونبعث ونحاسب من يدخل الجنة أبداً ومن يدخل النار أبداً وهكذا تنتهي حكايتنا كبشر أم أن في هذا الكون اللامنتهى الامتداد والذى لا نعرف منه حتى مقدار ذرة، هناك أبعاد أخرى وحيوات أخرى وربما ينتقل الموتى المبشرين بطريقة وماهية ما للعيش أو استمرار حيواتهم فى أحد أركان هذا الكون لكن بكيفيات لا نعلم عنها شيئا، بعدما ضُربت الحُجب الفلاذية بين عالمين؟
لقد بدأ الكاتب "يحيى صفوت" مشروعًا من الكتابة التي تناول فيها موضوعات وجودية وفلسفية فى إطار فنتازي ربما يكون أقرب للماورائية، سيحسب القارئ فى البدء أنها كتابات من أدب الرعب لكن الطريقة الفنتازية ما هي إلا الإطار السردي الذى يوصل به الكاتب أفكاره. وفى هذه الرواية خلط الواقع بالفانتازيا عندما أخذ الكاتب الحوادث التي وقعت فى مصر حقيقة مثل حادث القطار الذى انفجر على محطة رمسيس في 2019. وحادث غرق العبارة السلام في 2006. . وصاغه بأسلوب فنتازي ليظهر أن هناك فاعلا مجهولا وراء كل هذه الحوادث الضخمة، وهو جزء من تشكيل عصابي عالمي يتبنى فكرة اختيار قتل الناس لرحمتهم دون إذن منهم، هم من يقررون من يعيش ومن يموت لأنهم أفضل من البشر للاختيار!
|