القاهرة 02 ابريل 2024 الساعة 08:36 م
بقلم / د. هويدا صالح
ثمة تساؤلات داوم الناس على طرحها على المبدع الذي يجمع بين الإبداع والنقد، ما مدى تأثير كل منهما على الآخر؟ هل يكتب المبدع الأديب نصه الإبداعي بوعي نقدي يمتلكه من خلال الممارسة النقدية أم ينحي الرافد النقدي جانبًا وهو يكتب نصّه الإبداعي؟ وهل يؤثر فعليًا هذا الوعي النقدي بجماليات النوع الأدبي الذي يكتبه الأديب على نصه الإبداعي؟ وهل يختلف كونه مبدعًا ينتج نصّا نقديًا عن النص النقدي الذي يقدمه الناقد الذي لا يمتلك مشروعا إبداعيا من الأساس؟
بل يغالي البعض في الحديث عن النقد والنقاد: أن الناقد إن هو إلا مبدع فاشل، ضل طريقه واتجه إلى النقد؛ لأنه لم يحقق مشروعه الإبداعي، وأخيرًا هل ثمة أزمة نقد حقيقية؟ وهل يخضع الناقد لآليات السوق والشللية والضغوط الإعلامية وهو يقارب النصوص الإبداعية؟ أم يمكن أن يتجرد من كل ما هو شخصي وكل ما هو خارج النص الإبداعي ويتعامل مع النص وفق معطياته الجمالية؟
هذه أسئلة وغيرها الكثير تواجهني باعتباري أجمع بين الكتابة الإبداعية (قصة ورواية) وبين النقد الأدبي.
لا أنكر أنني في بداية مشواري النقدي كنت دائمة الدفاع عن نفسي أمام اتهامات مثل هذه، وكأنني مدانة مسبقًا من قبل القراء أو الجمهور المتخصص والعام.
وكنت دومًا أدافع بحماس عن كوني ناقدة وكاتبة قبل أن أكون ناقدة. ويأخذني الحماس كثيرًا وأدافع عن جمهرة النقاد وكأنهم متهمون من قبل جمهور افتراضي، وأن الناقد لديه ضمير أخلاقي يتمثله وهو يقارب نصا إبداعيًا بغض النظر عن منتج هذا النص وملابسات علاقة الناقد به.
لكن مع مرور الوقت تكشف لي الأمر وهو أنني لست مطالبة بأي دفاعات من أي نوع، ليس عن شخصيتي الاعتبارية ككاتبة قصة وروائية، ولا عن شخصيتي النقدية باعتباري أمارس النقد الأدبي شفاهة من خلال الندوات والمؤتمرات والفعاليات، وكتابة من خلال كتبي النقدية ودراساتي المعمقة المحكمة ومقالاتي ومتابعاتي النقدية لما يصدر من إبداع مصري وعربي وعالمي. لكن كيف وصلت إلى هذه القناعة: عدم الرغبة المطلقة في تقديم دفوع ونفي اتهامات؟
-
العلاقة بين الإبداع والنقد:
لو أن الناقد تمثل وعيًا جماليًا يؤكد على أن النقد إبداع موازٍ، إبداع على إبداع، ينتجه الناقد حينما يقرأ نصا إبداعيا ينتجه آخر لديه رؤية مغايرة للعالم، ساعتها يقدم الناقد رؤية أخرى موازية، جمالية يكشف فيها عن جماليات النص الإبداعي، ورؤية ثقافية يكشف فيها الناقد عن رؤية الأديب للعالم الموازية لكيفية إنتاج الأديب للنص. ساعتها يخرج الناقد من الفكرة التقليدية التي ترى النقد مجرد درس مدرسي يطبق فيه الناقد نظريات جاهزة على النص الإبداعي بغض النظر عن معطيات النص ومقولاته ورؤيته الجمالية والثقافية.
والسؤال الذي داوم المحاورون والصحفيون على أن يسألوني عنه دوما هو: هل أثر النقد لديك على الإبداع؟
إنني أقوم دومًا بإعادة اكتشاف هذه العلاقة الجدلية بين الإبداع والنقد في مشروعي، لا شك أن النقد أثر بشكل إيجابي على كتابتي الإبداعية، فأن تكتب إبداعا وأنت تمتلك وعيا نقديا بجماليات النوع سوف تتخلص من الكثير من عيوب الكتابة، وتحاول أن تنحاز لما هو جمالي واع بنوعه وفنياته، فيأتي النص ـ على قدر المستطاع ـ واعيًا بذاته وبجماليات النوع الأبي الذي ينتمي إليه.
كما أن الإبداع وهبني لغة نقدية إلى حد ما ليست مدرسية جافة بل تحرص على أن تكون مساحة إبداعية جديدة عند محاورة نص من النصوص.
إن الإبداع والنقد كلاهما رافدان يرفدان بعضهما البعض في عملية متراوحة أحاول من خلالها أن أكتب إبداعا ونقدا إلى حد ما مفارقا لما هو سائد ومطروق.
-
شللية أم توجهات إعلامية؟!
مساءلة النقد والنقاد، حول تسييد نوعية معينة من الكتابات وتدشينها والترويج لها دون غيرها من الكتابات، مساءلة مشروعة وتستحق التوقف قليلا لتفنيد هذه الاتهامات.
الاهتمام بكتابات دون غيرها وتسييدها والترويج لها يخضع في واقع الأمر لسياقات الوعي الجديد بالتسويق وصناعة النجم التي هي صناعة غربية ولم نعرفها إلا من وقت قصير نسبيًا، فقد أتاحت الميديا الجديدة أمام الكتاب ودور النشر فرصا جمة لتسويق ما ينتج من كتابات بالتواصل مع النقاد وصحفيي الصحافة الثقافية من أجل توفير نسخ ورقية أو ديجتال من تلك الكتابات بهدف الكتابة عنها.
كما أن الإعلام المتمثل في الصحافة الثقافية والميديا المرئية والمسموعة أسهم في ذلك بتبني بعض الكتابات على حساب البعض الآخر؛ مما أنتج تحزبات وانحيازات لم تكن غالبًا منبنية على قناعات جمالية بقدر ما هي قائمة على العلاقات والتربيطات والشللية، ومما فاقم في الأمر أن بعض الكتاب صنعوا ما يطلق عليه بالألتراس من المريدين والمنحازين لكاتب ما دون آخر، فصار هؤلاء يروجون لهذه الكتابة دون غيرها، بل في بعض الأحيان مثّلوا إرهابًا لمن ينتقد هذه الكتابة أو حتى يبدي انطباعًا سلبيًّا ضدها.
إضافة طبعًا إلى الجوائز الأدبية وما أحدثته من انحرافات جمالية تجاه تيار كتابة ما، فبمجرد أن يفوز عمل ما حتى نجد العام التالي مباشرة استشراء لمثل هذه الكتابة رغبة في الحصول على الجوائز، وكأن هناك تطبيق حرفي للمثل الشعبي المصري أنه: بمجرد أن يفتح شخص ما (دكانا) متخصصا في بيع سلعة ما، ونجح في مشروعه حتى تُفتَح بجانبه عشرات الدكاكين تبيع نفس السلعة دون الاهتمام بدراسة الجدوى وآليات السوق وغيرها من السياقات الاقتصادية والاجتماعية.
-
انحياز جمالي/انحياز رؤيوي:
لكن كيف تتعامل كاتبة هذه السطور مع ما تقرأه وما تحصل عليه من كتب إبداعية؟ هل تقع تحت سطوة كل السياقات السابقة في إبداء رأيها شفاهة أو كتابة تجاه عمل ما؟
في حقيقة الأمر حرصت منذ بداية اشتغالي بالنقد الأدبي قبل ما يزيد عن عقد ونصف من الزمان على أن أنحاز لما هو جمالي فقط بغض النظر عن السياقات الثقافية التي تحيط بالعمل الأدبي، فلم أعرف يومًا انحيازًا ما يفارق الانحياز الجمالي، لم ألتفت يوما لشخصنة ما أو صداقة أو معرفة أو شللية، قناعة مني أن التاريخ سوف يفرز دوما ما كتب إبداعا ونقدا، وسوف نقف جميعا أمام محكمة التاريخ، ليؤكد أو لينفي إدعاءاتنا.
إنني أنحي جانبا كل ما يحيط بالنص الأدبي من ظلال ثقافية واجتماعية، فلا أنتبه لجنس الكاتب أو جنسيته أو أي تصنيفات مهما كانت إنما أنتبه فقط لما قدم من محتوى جمالي. كما أنني أدخل للنص مستطلعة ومندهشة دون عُدة نقدية جاهزة من نظريات ومناهج النقد الأدبي.
إنني أرى أن كل نص أدبي يطرح مداخله القرائية الخاصة، كل نص أدبي يقرأ الناقد ويحفزه ويستنهضه ويستخرج من داخله خطابًا نقديًا جماليًا لا يقل أهمية عن النص الأدبي.
لكن هل معنى ذلك أن الناقد يتخلى عن كل المعرفة النظرية والنقدية والمنهجية ويدخل للنص فارغ الوفاض من كل شيء؟!
بالطبع لا أقصد ذلك أبدًا، بل أرى أن الناقد يتسلح بكل المعارف المختلفة المعارف النقدية والفلسفية والاجتماعية والنفسية، بل وحتى العلمية والاقتصادية والجغرافية ويدخل النص بغرض محاورته، مناوشته، مراودته عن خطابه الظاهر والمضمر، فيصير وأقصد الناقد مثل النحلة التي امتصت الكثير من الخطابات والمعارف وقد خرجت إلينا بعسل كثير أو لنقل بخطاب نقدي جمالي موازٍ للنص الإبداعي ولا يقل عنه أهمية وعمقًا ورؤية.
يشغلني سؤالان عند محاورة أي نص أدبي: الأول هو السؤال الجمالي، ماذا قدّم الكاتب من مغامرات جمالية وتقنية؟ والثاني هو ماذا أراد الكاتب قوله من خلال الطبقات المختلفة لنصه؟ ما هي رؤيته للعالم؟ أي خطابات ومقولات تكمن في فراغات نصه وتحت طبقاته المتنوعة؟ أو بمعنى أدق ما هو الخطاب الثقافي الذي يكمن في طبقات النص؟.
يصدف أن أجد نصًّا لديه مغامرة جمالية فارقة، لكن رؤيته للعالم عنصرية أو منحازة لمكون ثقافي دون بقية المكونات الثقافية أو لديه رؤية عدائية لما هو إنساني ومشترك، ساعتها يُنتقَص النص عندي ولا يقترب من تخوم الجمال. ويصدف أيضا أن أجد نصا آخر لديه رؤية للعالم تنحاز لما هو إنساني وتقدم خطابا ثقافيا مقبولا بالنسبة لي، لكنه يفتقد للحد الأدنى من الجماليات، هنا أتحفظ أيضًا ولا يصير النص مقبولا بالنسبة لي؛ لأنني لا أبحث عن رؤية مفارقة لما هو جمالي، وإلا كان الأولى بها المقال أو الخطبة العصماء. لذا النص الذي يقدم رؤية ثقافية تحملها رؤية جمالية لا تقل عنها أهمية هو نص يسعى للوصول إلى حد الكمال بالنسبة لي.
|