القاهرة 26 مارس 2024 الساعة 12:44 م
بقلم: د. حسين عبد البصير
يعد كتاب "أثينا العثمانية" لمؤلفه الرحالة العثماني إيفليا جلبي من أدب الرحلات المتميز عن فترة حكم العثمانيين لمدينة أثينا اليونانية في القرن السابع عشر الميلادي. وصدر الكتاب عن مكتبة الإسكندرية بمصر. وترجم وعلق وقدم للكتاب د. أحمد أمين أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار في جامعة الفيوم ود. شاكر موسى الأستاذ بكلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر.
يأتي هذا الكتاب توضيحاً لأهمية مدينة أثينا، مدينة العلم والحكمة، ذات الثقافات والهويات العديدة. واسم هذا المؤلف هو "سياحتنامه"، أي "كتاب الرحلات"، لكاتبه الرحالة الشهير إيفليا جلبي الذي زار المدينة في صيف عام 1667 ميلادية، وسجل مشاهداته لهذه المدينة الساحرة؛ فوصف آثارها وعمارتها ومساجدها وكنائسها وبيوتها وطرقاتها ومناخها وعجائبها وأهلها وطبائعهم ونسائها وملابسهم ولغة أهلها وغيرها.
يعد هذا الكتاب كنزاً معرفياً كبيراً لمعرفة أحوال المدينة في ذلك العصر. ويفيد هذا الكتاب كل المختصين بعلوم الآثار والتاريخ والسلالات والجغرافيا وتاريخ العمارة والديكور والملابس والسينما واللغات واللهجات واللاهوت والفقه؛ إذ لم يترك هذا المؤلف البارع صغيرة أو كبيرة في المجتمع الأثيني إلا وعلق عليها سواء أكانت من الناحية الدينية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
يقدم هذا الكتاب صورة واضحة وتفصيلية عن مدينة أثينا وسكانها، ويعكس هذا اهتمام المؤلف بالآخر وانشغاله به، ولم يكن هذا الآخر مهشماً بالنسبة له. وعلى الرغم من اختلاف في الدين بين دين المؤلف ودين أهل أثينا، فإن الكاتب نظر إلى الآخر نظرة احترام وتقدير؛ نظرًا لكون ذلك الآخر ابن حضارة عريقة ذات تاريخ تليد تعلمت منه البشرية.
نقل المترجمان الكتاب عن طريق مصادر عدة منها الأصل العثماني والترجمات التركية واليونانية الحديثة له. وتم تقديم الشروح والتوضيحات في الكتاب المترجم إلى العربية، حتى خرجا في النهاية بالترجمة الحالية للكتاب التي بين يديّ القارئ والتي حرصا أن تكون مطابقة للأصل دون غيره.
المؤلف هو إيفليا بن درويش بن محمد ظلي الذي وُلد في أستانبول في 25 مارس 1611 ميلادية. ويعتقد أنه توفي خلال الثلث الأخير من عام 1684 ميلادية عندما زار مصر ثانية وانتهت أخباره ولم يعرف مكان مقبرته. واسمه الحقيقي غير معروف، وإنما أُطلق عليه إيفليا ("أوليا" في التركية)، نسبةً لمعلمه إيفليا محمد أفندي. وجلبي لقب، ويعني في التركية "سيداً". وكان أبوه يعمل في القصر السلطاني في إستنابول. وأنهى تعليمه الأساسي بالكتاب. ثم تعلم القرآن والتجويد والحديث والحرف اليدوية الدقيقة مثل التذهيب والخط والموسيقى واللغة العربية. وعمل في البلاط السلطاني.
وقام برحلات عدة لمدة تزيد عن أربعين عاماً مسجلاً مشاهداته ووصف المدن التي زارها وتاريخها وآثارها في مؤلفه المكون من عشرة كتب المعروف بـ"سياحتنامه". وفي الجزء الثامن من كتابه، ذكر زياراته لجميع المدن اليونانية ورسم صورة مميزة لليونان في القرن السابع عشر الميلادي بمدنها وجزرها وجبالها ودوربها وخطوط انتقالها وسكانها وآثارها وبساتينها ومزارعها ولغاتها ولهجاتها ومناخها وخصائصها وتوزيع سكانها وقصص ومواقف عدة وبتفاصيل كثيرة عبر كل العصور التي مرت بها مثل العصور الكلاسية والبيزنطية والعثمانية.
هناك عدد محدود جداً من مخطوط سياحتنامه والمكتوب بالخط العثماني (اللغة التركية المكتوبة بالحرف العربي). واعتمدت الترجمة الحالية للمخطوط على نسخة قسم "كشك" بغداد رقم 308. وهناك نسخ مطبوعة عديدة من المؤلف.
يظهر الكتاب ثقافة إيفليا الموسوعية خصوصاً ثقافته الدينية والتاريخية وهي الثقافة المعبرة بامتياز عن ثقافة الإمبراطورية العثمانية في القرن السابع عشر الميلادي. وقام الرحالة بتسجيل الآثار المقدسة والتاريخية، ولم يقتصر على ذكر النماذج والآيات المعمارية فحسب، وإنما كان أقرب في عمله إلى مسح المدينة وكل معالمها سواء أكانت وثنية أو مسيحية أو إسلامية وجرد كل العمائر بالمدينة. ثم يصف بعض الآثار وصفًا تفصيليًا مثل وصفه جامع البارثنون في المدينة، وأحياناً يكون في وصفه مقتضباً مركزاً على أهم العناصر المعمارية مثل طريقة التسقيف أو المئذنة أو تقنية البناء أو المساحة، وأحياناً يسجل النقوش المكتوبة على الآثار، وأحياناً يدون غياب كيان معماري كامل أو أحد عناصره أو ظاهرة معمارية مثل رصده غياب القباب المغطاة بالرصاص، وانتشار التغطية بالقرميد بدلاً منها، في عمائر أثينا. وتتسم كتاباته بالدقة في الوصف والتسجيل. ونراه يسجل كل اللغات واللهجات التي قابلته، مما جعل من مؤلفه أول قاموس جامع في هذا السياق. وزار الأديرة وسجل لنا أوجه الحياة فيها وعدد الرهبان وكيفية العبادة ومنتجات هذه الأديرة وما تشتهر به.
يصدر المترجمان الكتاب المترجم بتصدير قصير. ثم يقوم المترجم الأول بكتابة مقدمة ضافية عن الرحالة وكتابه وزمنه. ويبدأ الرحالة إيفليا جلبي رحلته بوصف قصير للطريق إلى أثينا، ثم يصف مدينة أثينا، مدينة ومعقل الحكماء الأوائل، ثم يصف قلعة أثينا والجوامع السلطانية والمنشآت غير الإسلامية، ويذكر المبنى العجيب الذي يحتوي على أشياء غريبة، وبيوت عائلات المسلمين وغيرهم، وأزياء وملابس كفار أثينا، كما يطلق على غير المسلمين، والكنائس وسراي تنزه بلقيس والمبنى الرائع العجيب والعلم الغزير، وغرائب ميناء ذراكوس (آزدر)، والجبل المجنون وأصله والنباتات الموجودة وسفحه وعجائب الدير ودير رهبان بنديلي (مندل) والغار العجيب وميناء رافتي (دُرزي) وأماكن جديرة بالمشاهدة والنساء المحبوبات والعلماء والأطباء الأفذاذ وعمل الرب واللغة اليونانية وفتح حصن جزيرة أجنا (أكنه) ووصف جزيرة كلور (كُولوري). وبعد أن ينهي إيفليا جلبي رحلته لمدينة أثينا الزاهر، يذهب إلى محطة جديدة من محطاته العديدة ألا وهي "من أثينا إلى المورة".
يختم المترجمان الكتاب بقائمة مراجع مختارة استخدماها في عملهما المتميز. وأخيراً، فإنني أؤكد على أن كتاب "أثينا العثمانية" لمؤلفه الرحالة العثماني إيفليا جلبي هو كتاب مهم للغاية، وترجمته ممتازة، ويعد إضافة حقيقية للمكتبة العربية.
|