القاهرة 13 مارس 2024 الساعة 01:11 م
بقلم: أحمد محمد صلاح
كانت الإسكندرية تتمتع بجو هادئ لطيف ومناخ مناسب مشجع على التفكير الفلسفي، بغض النظر عن تحول المدينة الكُزموبلوتانية إلى ملتقى لكل الثقافات والعلوم واللغات وغيرها، فاحتضنت المدينة كبار الرياضيين في عصرها الأول مثل أرشميدس، وأرسطارخوس، وأبولونيوس، ولعل أرشميدس أشهرهم وما زالت نظرياته التي وضعها بالإسكندرية تدرس حتى اليوم.
وبالطبع تأثر العرب قليلا بما كان بالإسكندرية، وإن كان هذا التأثير لم يلمسهم إلا لمسًا خفيفا، أو بالأحرى اطلعوا دون أن يأخذوا شيئا، فيقول أبو الحسن علي بن يوسف القفطي في كتابه أخبار الحكماء إن الإسكندرانيين هم «الذين رتَّبوا بالإسكندرية دار العلم ومجالس الدرس الطبي، وكانوا يقرأون كتب جالينوس ويُرتِّبونها على هذا الشكل الذي تُقرأ اليوم عليه، وعملوا لها تفاسير وجوامع تختصر معانيها، ويسهل على القارئ حفظها وحملها في الأسفار. فأولهم -على ما رتَّبه إسحاق بن حنين- اصطفن الإسكندراني، ثم جاسيوس، وأنقيلاؤس، ومارينوس، فهؤلاء الأربعة عمدة الأطباء الاسكندرانيين، وهم الذين عملوا الجوامع والتفاسير.»
ويعلق الأهواني على هذا النص الذي كتبه القفطي فيقول: "إن المدارس الفلسفية كانت موجودةً بالإسكندرية منذ أُنشئت حتى الفتح العربي، ولم ينقطع «دار العلم» أو «مجلس التعليم والدرس» منذ أن كان ذلك في المتحف، وظل في الأغلب مستمرًّا فيه إلى أن تخرَّب في القرن الثالث وظهرت مدارس أخرى، إذ في أكبر الظن أن الإسكندرية كانت تحتضن أكثر من مدرسة، ولا بد على كل حال في التعليم من مقرٍّ أو دار أو مجلس، بعبارة أخرى من مدرسة ثابتة تُشد إليها الرحال".
كانت الفلسفة في وقتها وكما ذكرنا في بداية حديثنا عن الفلسفة وتعريفها أنها علم العلوم، لذلك كان من الطبيعي للفلسفة في عصرها الذهبي أن تكون مرتبطة بعلوم الرياضيات والفلك والطب، فذلك يدخل في صميم الفلسفة، ليس فقط التفكير والمحاورات.
ثم أنشئت المكتبة، وقد عُرفت المكتبات من قبل إنشاء الإسكندرية وبخاصة في أثينا منذ القرن الخامس قبل الميلاد، ثم شرعت مدن أخرى تحذو حذو أثينا وتُنشئ مكتباتٍ تحتفظ فيها بمؤلَّفات الشعراء والأدباء والعلماء والفلاسفة، ولم يشأ بطليموس الأول أن تكون عاصمة ملكه أقل شأنًا من غيرها من المدن، فأمر بإنشاء مكتبة ظفرت في المستقبل بشهرةٍ عظيمة لكثرة ما كانت تحتوي عليه من مؤلَّفات.
ويستطرد الأهواني فيقول: "أسَّس المكتبة ديمتريوس الفاليري (من مدينة فاليرون في أتيكا)، الذي عاش الشطر الأكبر من حياته في القرن الرابع، وكان تلميذ ثاوفراسطس، واشتغل بالسياسة وأصبح حاكم أثينا من سنة 317 إلى 307 قبل الميلاد، ثم نُفي من أثينا فرحَّب به بطليموس وعهد إليه بإنشاء المكتبة، التي استغرقت زمنًا ورعايةً وعنايةً لاستكمالها بغية الحصول على الكتب المختلفة في شتَّى الفنون".
وكانت هيئة الكتاب مختلفةً اختلافًا بيِّنًا عن هيئته المألوفة لنا في الوقت الحاضر، فكتاب اليوم مطبوعٌ على ورق رقيق وفي حجم دقيق، وكتاب الأمس مخطوطٌ على ورق البردي وحجمه كبير، كانت الكتب عبارةً عن لفائف من ورق البردي، ولذلك كانت تشغل مكانًا واسعًا، وبخاصة إذا اشتملت المكتبة على آلاف عدة من الكتب، وقد بلغ عدد ما في مكتبة الإسكندرية مئتي ألف في عهد مؤسِّسها بطليموس الأول، ونمت حتى بلغ عدد كتبها سبعمائة ألف زمان يوليوس قيصر.
وقد مرَّت بالمكتبة محن كثيرة انتهت إلى زوالها، وأول محنة أصابتها عند حصار يوليوس قيصر للإسكندرية، وكانت المكتبة عامرةً مزدهرة، فلمَّا أحرق قيصر الميناء، امتدَّت ألسنة النيران إلى المكتبة، ويقال أن أنطونيو وهب كليوباترا مئتي ألف كتاب من برجام سنة 41ق.م، تعويضًا لما فُقد منها.
ولمَّا بدأ ساعد المسيحية يشتدُّ شيئًا فشيئًا منذ القرن الثاني، كان المسيحيون يعتقدون أن المكتبة والمتحف جناحان لقلعة الكفر والإلحاد، ونحن نعلم أن المسيحية لقيت عناءً شديدًا في مكافحة الوثنية القائمة على الفلسفة اليونانية، وكان الصراع بين المسيحية دينًا، والوثنية ثقافةً وأدبًا وفلسفةً صراعًا مرًّا، لم تستطِع المسيحية أن تتغلَّب عليها إلَّا في القرن الرابع، وحين تنصَّر الأباطرة أنفسهم فأيَّدوا الدين بسلطان الدولة، وقد دُمِّرت المكتبة في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس، وذلك بأمر البطريق ثيوفيل بطريق الإسكندرية (385–412) الذي كان معاديًا للوثنية.
وقد شاع أن عمر بن الخطاب هو الذي أمر عامله عمرو بن العاص بحرق المكتبة، وهي قصة العرب منها براء، لأن المكتبة كما رأينا لم تكن على حالها القديم عند الفتح العربي.
|