القاهرة 12 مارس 2024 الساعة 11:46 ص
بقلم: د. شادي أبو ريدة
يُعَدُّ تاريخُ الفن العربي الحديثِ والمعاصرِ غامضًا ومُلْتَبِسًا، ومُشَتَّتًا في مَرَابِعِ التِيهِ، وفي حاجة ماسة إلى الكثيرِ من التدقيقِ التأريخي والتوْثِيقي التراكُمي المتسلسل والمترابط، تَحْتَ مِظَلَّةٍ مِنَ الضميرِ الثقافي المتحرر من إسَارِ المجاملةِ والمداهنةِ، وباتباعِ مَنْهَجيَّةٍ عِلْميَّةٍ سَلِيمةٍ مُتوازنةٍ ومُحَايدة، وبخاصة فيما يَتعلَّقُ بمراحلِ تطورهِ وَتَمَفْصُلِهِ وَتَحَوُّلِهِ، وتياراتِهِ ومؤثراتِهِ الفنية، منذ مراحلهِ الجَنِينِيَّةِ الأولى حتى الآن، للدَفْعِ بِهِ نحوَ بُؤرةِ النَظَرِ والاهتمام، ليكونَ جزءًا من التأريخِ العالميِ للفن التشكيلي، في مُحاولةٍ لاستنهاضِ الذَّاتِ والهُوية العربية، التي تَصْحُو قَليلًا وَتَغْفُو كثيرًا..
إننا في حاجةٍ إلى أن نُؤَسِسَ لفِعْلٍ ثَقَافِي ونِقَاشٍ جَمَالِي، يبحثُ في الترابطِ العُضوي والبَصَري للتشكيلِ العربي ووشائِجهِ الرَحِميَّة، ولملمة شظاياه المتناثرة لتكوين ذخائر تُراثنا الحديث، وَسَدّ الثغرات وربما الفَجَوات الفكرية والفنية التي أضْعَفَتْ وأَوْهَنَتْ بَدَنَ هذا الفن من الناحيةِ النظريةِ والنَقْديَّة، فربما لا نبالغُ إذا قُلنا بأن بِنْيَةَ هذا الفن الغائبة والمهمشة أكثر من بِنْيَتِهِ المُتَحَقِقَة، حيث احتلت تجارب فنية عديدة منه مساحة مظلمة غير مرئية من التاريخ التشكيلي، ولم تجد من يسلط عليها الضوء ويجذب إليها الانتباه، تجارب فنية قُبِرَت حية قبل أن تعيش وتحيا بين الناس، لأنها لم تمتلك مقومات الحياة في ساحة فنية غير عادلة في كثير من مساحاتها وفضاءاتها، وكان يجب أن يُوَفَّر لتلك التجارب- المهضوم حقها - غذاءها ودواءها وسلاحها، بدلًا من غَضِّ الطرف عنها لمصلحة تجارب فنية أخرى فارغة كالطبل، لها صوت عالٍ بلا محتوى سوى الخواء، لكنها وجدت أبواقًا وباعة جائلين يروجونها ويدللون عليها.
لقد قَصَّرَ الكتاب والنقاد المُتَخَصصُونَ في حَقِّ التشكيل العربي على عِدَّةِ أصْعِدَة، فاستباحَ سَاحَتَهُ غَيْرُ المُتَخَصصينَ والمُتَنَطعِينَ وأصحابُ المصالح، مُعْتَلِينَ للمنابرِ الخِطَابيَّة، وَمُتَشَدقِينَ بالعباراتِ المَدَائِحِيَّةِ الكاذبة، مما تَسَبَّبَ في تَشَرْذُمِ وَتَبَعْثُرِ الدراساتِ والنصوصِ التي كُتِبَتْ عَنْهُ، وَرَكَاكَة وارتباك الكثير منها، فلا تَصْلُحُ للتَعْوِيلِ عَليْهَا أو الإحَالَةِ إليها، أو الثقَةِ فيها كَمَرْجِعٍ تاريخي.
أما الكتاباتُ الرَّصِينَة غَيْر المُتَعَجلَة - للكُتَّابِ والنُقَّادِ الذينَ لم يَسْفِكُوا حِبْرَهُم في غَيْرِ مَوْضِعِهِ وبِغَيْرِ حَقّهِ - فهي قليلةٌ بل نادرة، والتي تُعَدُّ إضاءات صادقة، وشهاداتُ حَقٍ زمانيةٍ ومكانية، وقواعدَ متينة قادرة أن تحملَ فَوْقَها البناء النقدي والتوثيقي الجديد، ببراعةٍ إنشائيةٍ لا تَضْطَرُّ إلى بدايةٍ صِفْريَّة، فلا حَداثة ولا مُسْتَقْبَل بلا ذاكرةٍ واضحةٍ متكاملةٍ غير انتقائية، وبلا قفزاتٍ واسعة، خِطَاب نَقْدِي يَدُورُ في الفَلَكِ العربي، ولا ينتقلُ للدَّوَرانِ في فَلَكِ الآخرِ بالكُلْيَّة، بَلْ يَتَسَاوَقُ وَيَتَنَاسَقُ مَعَهُ، وَبِخَاصَّة أَنَّنَا نمتلكُ مُقوماتِ فَنٍ عربيٍ أصيلٍ، لكنهُ مُتَصَدِّعٌ وغيرُ مُتَرابِط، بسببِ فَرْدَانِيَّةِ وانْعِزَالِيَّةِ تجاربهِ الفنية في أغْلَبِهَا، والإهمال أو الإخفاء المُتَعَمَّد لتجارب بَيْنِية عديدة، يُمكنها استكمالَ المشهد الفُسَيْفِسَائِي للتشكيلِ العربي.
لِذا، كان ولا يزالُ من الضَروري رَأْبُ هذا الصَدْعِ، وهو هَدَفٌ لَيْسَ عَصِيَّ التَحَقُق، وذلكَ بِأَنْ يَكُونَ للمُتَخَصِّصِينَ وأصحابُ الشأنِ، دورٌ فاعلٌ ومستمرٌ في هذه المهمةِ الثقافيةِ الوطنيةِ والقومية، بالابتعادِ عن الوقوفِ في المساحاتِ الرَّماديةِ الساكنة ومُدَرَّجَاتِ المُتَفرجين، والنزولُ إلى ساحةِ المُعْتَرَكِ الثَقَافِيِّ والنَقْدِيِّ، وتضافر جِهات ثَقَافيَّة عِدَّة، كَوزاراتِ الثقافة، وَمَعَاهِدِ النَّقْدِ الفَني، وكذلك الكُليات الفنية التي أصبحَ من الحَتْمِيِّ والضَرُورِيِّ تدريس مادةِ النَقْدِ والكتابةِ الفنية فيها، كمادةٍ أساسية في جميعِ الأقسام، وعلى مَدَارِ الأعوامِ الدراسية جميعها، بأسلوبٍ بِيدَاغُوجِيٍ فَلْسَفِيٍ ولُغَوِي، وذلكَ لِجَذْبِ الطلابِ الدارسينَ إلى حَقْلِ الكتابةِ الفَنْيَّة، لِيَعْمَلُوا على تَوْثِيقِ أَحْوَالِ، وظروفِ، وأزمنةِ، وأمْكِنَةِ الارْتِكَابَاتِ الفنية، واسْتِنْطَاقِ فَحْوَاهَا، والإحاطة بِسِيَاقَاتِهَا المُختلفة، وَظَرْفِيَّاتِهَا غَيْرِ المُتَشَابِهَة، لتَأْصِيلِ هذا الفَنِّ الثقافي الكِتَابِيِّ مَعْرِفِيًا وَمَنْهَجِيًا، ولإثمارِ جيلٍ جديدٍ مِنَ النُقَّادِ الفَنيينَ الذين يَتَحَلَّوْنَ بالمِصْدَاقِيَّةِ، وَمَوْهِبَةِ التَأْوِيلِ والتَحْلِيلِ والتَصْنِيفِ، والقُدْرَة على تَوْصِيفِ المُعْطَى التشكيلي، والنفاذُ إلى المعاني الداخليةِ للعملِ الفَني واسْتِشْفَاف جَمَاليَّاتِهَا وَدَفْقَاتِها الشُعُوريَّة، وتقديم وجبة ثقافية غَنِيَّة لمُشَاهِدِي الأعمال والتجارب الفنية، وَمُتْعَة تَذَوُّقِيَّة وجمالية، غَيْرَ مُجْتَزَئَةٍ أو مَنْقُوصَة، نُقَّاد مَاهِرُونَ في السياحةِ داخلَ الأعمالِ الفنية، وفي إرْشَادِ الجُمهور، وكُلُّ ذلكَ لَنْ يَتَأتَّى إلا بامْتِلاكِ هؤلاءِ النُقَّادِ لآلياتِ النَّقْدِ، ولأدواتِ الكتابةِ الفنية، وَفَنِّيَّاتِهَا، وَفُنُونِهَا الأدَبِيَّةِ وَاللُّغَوِيَّة، وأَنْ يَكُونَ فِي جُعْبَتِهم رصيدٌ هائل مِنَ الثقافةِ الفنيةِ المُمْتَدَّة والمُتَجَدِّدَة، وقُدْرَة على التِرْحَالِ والتَّطْوَافِ الطَويلِ، بَدْءًا بفنونِ الإنسانِ البدائي، حَتَّى الفنونُ المعاصرة، والتجارب الفنية الآنِيَّة، بالقَدْرِ الذي يُؤَهِّلُهُم لفَكِّ رُمُوزِ الأعْمَالِ الفنيةِ وَشِفْرَاتهَا، والتِقَاط إيحاءَاتِها وَمَدْلُولاتِها، وَمَهَارَاتِ قراءةِ وَتَشْرِيحِ ما وراءِ الشكلِ العَيَانِيِّ لَهَا، فَتَتَخَلَّقُ حالةٌ مِنَ المُنَاجَزَةِ والمُبارَزةِ النَقْدِيَّةِ الحَمِيدَة بَيْنَ النُقَّادِ الجُدُدِ، مِنْ خِلالِ زيادةِ أعْدادِ المُسابقاتِ النَقْديَّة التشكيلية على المستوى العربي، والتي لا يَصِلُ عَدَدَهَا الآن إلى عَدَدِ أصابعِ اليَدِ الواحدة، وبأن يكونَ النقدُ الفنيُّ أَحَدَ المجالاتِ المُشاركة في جميعِ المسابقاتِ الفنيةِ التشكيلية، دُونَ تَحْدِيدِ حَدٍ أقْصَى لعُمْرِ النُقَّادِ المُشَارِكِين، ليَنْتَشِرَ المُتَبَارونَ جَمِيعهم مِنْ الأجْيَالِ والمَرْجِعِيَّاتِ كافة وَشَتَّى المَذَاهِبِ الفِكْرِيَّةِ على مِنَصَّاتِ المُطَارَحَاتِ الثقافيةِ الجُذْمُوريَّة وَالدِيَالكتيكِيَّة التي تَسْمَحُ بِدخُولِ وخروجِ وتقاطع الأفكارِ والأُطْرُوحَاتِ أفقيًا لا رأسيًا، تَحْتَ لِوَاءِ المَنْطِق، وَاتِّسَاعِ مِسَاحَةِ التَّأْوِيلِ والتَّفْسِيرِ..
فالفِكْرُ والإبداعُ لا يَتَحَدَّدُ بِعُمْرٍ، ولا يَحُدَّهُ أُفُقٌ مَنْظُور، كما أنَّ تَنَوُّعُ الأجيال وتَعَدٌّد المَشَارِبِ، سَيُثْرِي هذهِ المسابقاتِ التنافسيةِ ويُغْنِيها، وسَيَجْعَلُ لَهَا دَوْرًا فَاعِلًا في إحداثِ ثورةٍ نقديةٍ توثيقية، وفي تطويرِ وتحديثِ الثوابتِ النقدية أو تغييرها إذا لَزَمَ الأمْرُ، بالإضافةِ لِفَرْزِ وَتَنْقِيَةِ كُلّ ما كُتِبَ في الشأنِ الفني التشكيلي في المكتبة العربية، واستخراجُ الغَثّ الطالح وإعَادَة تَصْنِيفِهِ، والتأسِيسُ والبناءُ على الثمينِ الصالحِ، وتسليطُ الضَوْءِ على التجاربِ الفنيةِ المهمة التي تَمَّ إخْمَادُهَا، أو نَفْيهَا خارجَ المَشْهَدِ التَشْكِيلِي، لِصَالِحِ الدِيمَاجُوجِيينَ مُتوَاضِعِي المَوْهِبَة، ولِمُحَابَاةِ أصْحَاب التَجَارُب الطُفَيْلِيَّة الفقيرة الفَارِغَة مِنَ المَضْمُونِ الفَنيِّ والفِكْريِّ والجَمَالِيِّ، لأسبابٍ تَواطُؤيَّةٍ وارْتزاقيةٍ وَانْتِهَازِيَّة.
كذلكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُناكَ تَنْسِيقٌ تَنْظِيمِيٌ بين الجِهَاتِ المُنَظِّمَة لتلكَ المُسَابقات على مُسْتَوَى الوطنِ العربي، بحيثُ يَتِمُّ تَقْسِيم التاريخ التشكيلي العربي الحديث والمعاصر، إلى سنواتٍ أو حِقَبٍ زمنيةٍ مترابطةٍ ومتكاملة، ليتم تَغْطِيتها ودراستها بشكلٍ دقيقٍ ومُتَفَحِّصٍ، على مَدَارِ عِدَّةِ دَوَرَاتٍ مُتَتَالِيَة، وجَمْع هذا النِتاج ضِمْنَ موسوعةٍ شاملةٍ مُعْتَمَدَة، أو عِدَّةِ مُجَلَّدَاتٍ مُتَسَلْسِلَة، نَعُودُ إليها بَيْنَ الفَيْنَةِ والأخرى بالتنقيحِ والتدقيقِ والمُراجعة، أو بالإضافةِ والحَذْفِ، وَيَتِمُّ تدريسها في معاهدِ وكلياتِ، وأكاديمياتِ الفنونِ والنقد في جميعِ البلدان العربية.
بيانات العمل
انزوائيات1 Introverts 1
طباعة بارزة ملونة من القالب الخشبي طولي المقطع
مساحة القالب الطباعي: 40,5 × 40,5 سم - 2023م
بيانات العمل
انزوائيات 2 Introverts 2
طباعة بارزة ملونة من القالب الخشبي طولي المقطع
مساحة القالب الطباعي: 40,5 × 40,5 سم - 2023م.
بيانات العمل
انزوائيات 3 Introverts 3
طباعة بارزة ملونة من القالب الخشبي طولي المقطع
مساحة القالب الطباعي: 40,5 × 40,5 سم - 2023م.
|