القاهرة 21 فبراير 2024 الساعة 05:55 م
بقلم: أحمد محمد صلاح
توفي الإسكندر المقدوني عام 323 قبل الميلاد، وبدأت الثقافة الهلنستية تمتد خارج بلاد اليونان إلى سائر بلاد العالم القديم، لتخضع كل البلاد التي غزاها الإسكندر إلى ثقافة واحدة، ولكن ينبغي أن نقول إن المؤسس الحقيقي لمدينة الإسكندرية والذي استطاع أن يحولها إلى مركز للعلم والفلسفة والثقافة هو بطليموس الأول.
حكم بطليموس الأول مصر بعد وفاة الإسكندر، وقد كان رفيق هذا الأخير واشترك معه في حملات آسيا الصغرى، وعندما أسس الإسكندر المدينة التي سميت باسمه قام بطليموس بدفن رفات صديقه بها، وأنشا بها الفنارة التي كانت من عجائب الدنيا السبع، كما أنشا المتحف، والمكتبة، واستمر حكمه حتى عام 285 ق.م، ثم تولى ابنه بطليموس فيلادلفوس الحكم، حيث كان حكمه امتدادًا لحكم أبيه.
وبلغت دولة البطالسة ذروة مجدها في ظل بطليموس الثالث 247 إلى 222 ق.م منذ أن وضع حجر أساس الإسكندرية، حيث أدرك الإسكندر موقع تلك المدينة الاستراتيجي، وقدرتها على أن تكون حلقة الوصل بين الثقافة اليونانية الإغريقية وبين الحضارة المصرية، وخصوصا مع بدء انتشار الثقافة الهلنستية أدرك البطالسة أن مجد الدول وارتفاع منزلتها يرجع إلى ما يسودها من علم، فدول كثيرة تمتلك المال والسلطان ومع ذلك ليس لها تاريخ، وبعضا لم يبق له أثر !
اتجه البطالسة إلى منافسة أثينا بوجه خاص في زعامتها الفكرية للعالم، وأنشأت مدرسة فلسفية على غرار المدرسة الأكاديمية، أو اللوقيون، فكانت مدرسة الإسكندرية أقرب إلى اللوقيين، ولكنها لم تتوقف على شخص بعينه أو مؤسس تحمل اسمه، ولم ترتبط بعالم أو فيلسوف، وإنما كانت مؤسسة ثقافية علمية فلسفية تهيئ للباحثين فرص البحث والدراسة، فكانت أشبه بأكاديمية علوم أو معهد عالٍ للأبحاث، مقرُّه في ذلك الزمان «المتحف»، وباليونانية «موزايوم»، ومنه اسم المتحف حديثًا Museum، غير أن المتاحف الحديثة أصبحت مقرًّا للآثار القديمة، فتغيَّر بذلك معناها عن الزمن القديم.
ويقول أحمد فؤاد الأهواني في كتابة المدارس الفلسفية: "والمتحف معبد أو هيكل (موزايوس) لربَّات الفنون التسع، وهن بنات زيوس ونيموسيني، وهذه التسع هي ربة التاريخ، والشعر الغنائي، والكوميديا، والتراجيديا، والترانيم، والرقص والموسيقى، وشعر الغزل، والفلك، والشعر الحماسي. وهذا يدل على أن اتجاه المتحف كان في الأغلب نحو الشعر بأنواعه المعروفة في اليونانية، ولكن شهرة المتحف قامت على العلوم أكثر منها على الآداب والشعر.
بُني المتحف على غرار القصور الملكية، له طريق عام، ورواق ذو مظلَّةٍ تحفُّه الأرائك، ينتهي إلى بيت واسع يعقد العلماء متشاركين فيه اجتماعاتهم بقاعته الكبيرة. وكان يشغل عدة أبنية في المدينة الملكية المطلَّة على الميناء، وهذه الأبنية مهيأةٌ لشتَّى الأغراض العلمية، ويعيش أعضاء المدرسة معًا، وما يملكونه فهو شرِكة بينهم، ويرأسهم كاهن كان الملك يُعيِّنه في القديم.
والمتحف أدنى إلى أن يكون معهدًا للبحوث منه إلى أن يكون جامعةً أو مدرسة، وليس بين يدَينا من الوثائق ما يُؤيِّد أنه مكان للتعليم، إنه تعليمٌ بين أستاذ ومعاونيه، ولم يكن ثمة إدارة أو امتحانات، أو درجات جامعية، وكان المتحف مزوَّدًا بالأدوات والأجهزة الفلكية، وأدوات التشريح، وحدائق للنبات، ومن الطبيعي أن يستغرق بناء المتحف ونموه زمنًا، وأن يحتاج مع ذلك إلى الاستقرار، وقد كفل له ذلك كله بطليموس الأول والثاني والثالث.
وكان لتجرِبة ديمتريوس وأسطراطون الفضل في إرساء النظام الوحيد للمتحف، وكان كلٌّ منهما رئيسًا لمدرسة عريقة، وعالمًا فاضلًا، حيث تعلَّم أسطراطون على يد ثاوفراسطس، واستدعاه بطليموس ليُعلِّم ابنه سنة 300ق.م، واستمرَّ يعمل حتى سنة 288ق.م، إلى أن رجع لرئاسة «اللوقيون» بعد وفاة ثاوفراسطس".
وأقول إن الإسكندرية لم تكن فقط مجرد مدينة تحمل أكاديمية يونانية فحسب، إلا أن البطالسة قد حاولوا -وأعتقد أنهم نجحوا في- إقناع كهنة المعابد الفرعونية في وضع علومهم وتدوينها في المكتبة "المتحف"، وهذا ما جعل كبار العلماء والفلاسفة في أثينا ينزحون إلى مصر رغبة في معرفة ودراسة علوم الهندسة والفلك والطب، لذلك اقترنت مدرسة الإسكندرية بأسماء أشهر العلماء في عصرها الأول ومنهم إقليدس، وأرشميدس، وأبولونيوس، وأبولودورس.
ويقول الأهواني عن إقليدس: "تعلَّم إقليدس أولًا في أثينا، ودرس الرياضيات في الأكاديمية، وعقب اضطراب الأمور في أثينا، ذهب إلى الإسكندرية، وعاش في ظل بطليموس الأول والثاني، وتُروى عنه أقاصيص كثيرة نذكر منها أن بطليموس سأله ذات مرة: أيوجد طريق أقصر إلى الهندسة من طريق «الأصول»؟ فأجابه: لا يوجد طريقٌ ملكيٌّ للهندسة. و«الأصول» هو الكتاب الذي ألَّفه إقليدس حاويًا كل شيء عن الحساب والهندسة حتى زمانه، ويُعرف باسم «أصول الهندسة»، وهذه هي الترجمة العربية للعنوان في عصر الترجمة. وقد ظلَّ هذا الكتاب بترتيب نظرياته الهندسية أساسًا لهذا العلم حتى اليوم، نعني بالنسبة للهندسة الإقليدية. وسائر الرياضيين الذين لمعت أسماؤهم بعد ذلك، إنما كانوا شُرَّاحًا لإقليدس، وإذا كانت لهم إضافات في هذا الباب فهي في حل بعض مسائل، أو ترتيبٍ وتبويب يُوضِّح هذا العلم للطلبة.
وقد عرف العرب هؤلاء الرياضيين الذين ظهروا في الإسكندرية في عصرها المتأخِّر قبل الفتح، مثل بابوس، الذي عاش في القرن الثالث بعد الميلاد، وثاون الإسكندري من القرن الرابع، وبرقلوس، ومارينوس وكلاهما من القرن الخامس".
|