القاهرة 20 فبراير 2024 الساعة 01:47 م
بقلم: د.محمد السيد إسماعيل
الدكتورة عائشة عبد الرحمن إحدى العالمات التى استطاعت بإرادتها الصلبة القوية أن تواجه ظروفها الصعبة محققة بذلك ذاتها وطموحاتها، وقد لقبت نفسها ببنت الشاطئ حتى تستطيع نشر أفكارها، حيث كانت تقاليد أسرتها والمجتمع كله لا تسمح – في ذلك الوقت – بظهور اسم المرأة صريحًا فاختارت لنفسها اسم "بنت الشاطئ" لنشأتها في دمياط قريبًا من شاطئ نهر النيل.
ولا شك أن المتأمل في حياة الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، سوف يدرك – بسهولة -أنها أشبه برواية مليئة بالصعاب والتحديات، الأمر الذي دفعها إلى تشبيه خروج المرأة – فى ثلاثينيات القرن الماضى – إلى المجال العام بالسير على "جسر" ضيق معلق إذا سهت العابرة له – لحظة واحدة – وقعت فى الهاوية، ولهذا جاءت سيرتها الذاتية تحت عنوان "على الجسر بين الحياة والموت" ، التى روت فيها ما واجهته من الصعوبات، وكيف تحدتها وتغلبت عليها.
وكانت أولى هذه الصعوبات رفض أبيها محمد علي عبد الرحمن المدرس بالمعهد الدينى بدمياط خروجها للتعليم، فى طفولتها المبكرة، بحجة أن بنات المشايخ لا يخرجن للمدارس وإنما يتعلمن فى بيوتهن، لكن جدها لأمها الشيخ محمد الدمهوجى أقنعه بأهمية ذهابها للمدرسة لما لاحظه من نبوغها وحفظها للقرآن الكريم وهى دون العاشرة، ولم يكن أمامها من سبيل لإقناع أبيها سوى أن تتفوق فى التعليم، فحصلت على "شهادة الكفاءة" وكانت الأولى على القطر المصري ثم حصلت على "البكالوريا" (الثانوية العامة)، ولم يتوقف طموحها عند هذا الحد فسعت إلى الالتحاق بالجامعة وتحقق لها هذا بدعم من أمها.
-
التفسير البيانى للقرآن الكريم :
التحقت الدكتورة عائشة عبد الرحمن بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية، وقد كان هذا القسم مليئًا بمناهج البحث المتعددة، وهو ما تسبب في وقوع خلافات كثيرة بين ممثلى هذه المناهج، وصلت إلى حدود الصراع فيما بينهم، وكان من أهم هذه المناهج: منهج أحمد أمين العقلى الذى انتصر فيه لتراث المعتزلة، ومنهج عميد الأدب العربي طه حسين التاريخى الذى يعتمد على الشك وصولًا إلى اليقين، كما حدث فى كتابه الشهير " فى الشعر الجاهلى"، ومنهج أبى فهر (محمود شاكر) الذى ترك كلية الآداب مغاضبًا لطه حسين، ورافضًا لآرائه وآراء المستشرقين الذين تأثر بهم، وكان من نتائج ذلك كتابه المعروف "رسالة فى الطريق إلى ثقافتنا" الذي كان فى الأصل مقدمة لكتابه عن المتنبى، وأخيرًا منهج الشيخ أمين الخولى التجديدى، وهو المنهج الذى آمنت به الدكتورة عائشة عبد الرحمن واتبعته تأثرًا بأمين الخولى الأستاذ والزوج فيما بعد، ويقوم هذا المنهج – كما بينه أمين الخولى وبنت الشاطىء – على الدرس البيانى للقرآن الكريم، وهو ما ظهر فى ثلاثة كتب لها هى "التفسير البيانى للقرآن الكريم" و"الإعجاز البيانى للقرآن" و"القرآن والتفسير العصري"، كما يعتمد هذا المنهج على الجمع بين الأصالة والمعاصرة واعتبار "التليد" بوابة "التجديد" ، وأن المجدد فى الأصول لا بد أن يكون أصوليًا فى التجديد، وأن قتل القديم فهمًا – كما كان يردد الشيخ أمين الخولى – هو أول الجديد، وذلك لأننا نتعلم من السابقين، لكننا لا نسير خلفهم، لهذا ينبغي هضم تراث السابقين بوعي تجديدي (1).
هذا بالإضافة إلى أن الدكتورة عائشة عبد الرحمن قد راعت – فى تفسيرها فى كتبها الثلاثة وفى غيرها – أسباب النزول لفهم الظروف التى لابست نزول الآية، كما راعت ترتيب نزول الآيات، فلا شك أن مراعاة كل ذلك سيكون ضروريًا لفقه النص القرآني، وقد اقتصر التفسير البيانى عند بنت الشاطىء على قصارالسور وأغلبها كان من السور المكية، فتوقفت – فى الجزء الأول من الكتاب – أمام السور الآتية : النازعات، البلد ، الضحى ، الشرح ، الزلزلة، العاديات، التكاثر. ثم توقفت – فى الجزء الثانى – أمام السور الكريمة : القلم، الفجر، العلق، الليل، العصر، الهمزة. والحق أن علم البيان "حادث في الملة، بعد علوم العربية، وهو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ وما تفيده، ومعناه تنظيم البحث فى الأدب والكلام فى عناصره، وما يسمو به وما ينحط، وكان جهدًا جديدًا.. كما كان من العلوم التى تولى غرسها المسلمون، فى سبيل فهم كتابهم والدفاع عنه، وكان نماؤه بعد ذلك وتشبعت مباحثه بتأثير الدين " (2)
-
القضايا التى شغلت بنت الشاطىء:
قدمت الدكتورة عائشة عبد الرحمن للمكتبة العربية والإسلامية عددًا وافرًا من الكتب بلغ أربعين كتابًا فى مجالات البحث المختلفة، كما كتبت مئات المقالات التى كانت تنشرها – ولما تبلغ الثامنة عشرة من عمرها – فى مجلة "النهضة النسائية"، ومن الجدير بالذكر أنها كانت ثانى سيدة – بعد الأديبة اللبنانية مى زيادة – يخرج فكرها للنور على صدر جريدة الأهرام، واستعراض مؤلفاتها وكتاباتها عمومًا أمر يفوق – بداهة - طاقة هذا البحث، لهذا سوف نقوم بتحديد أهم القضايا التى عالجتها وكانت فى مدار اهتماماتها، وهى قضايا متنوعة نظرًا لتعدد قدرات الدكتورة بنت الشاطىء، ومن هذه القضايا مايلى :
-
قضية المرأة: اهتمت دكتورة عائشة عبد الرحمن اهتمامًا كبيرًا بقضية المرأة وحقها فى التعليم وفى الخروج إلى العمل والحصول على كل حقوقها، ويرجع هذا الاهتمام إلى صباها المبكر، وليس أدل على ذلك من أنها بدأت الكتابة فى مجلة "النهضة النسائية" كما أشرت من قبل. ولم يتوقف الأمر على هذه المقالات بل تطور إلى تأليف الكتب، فكتبت – فى هذا التوجه – خمسة كتب عن سيدات بيت النبوة هى: "أم النبي"، و"نساء النبي" ، و"بنات النبى" ، و"بطلة كربلاء السيدة زينب"، و"السيدة سكينة"، وقد ترجمت هذه الكتب إلى لغات عديدة منها الفارسية ، والأندونيسية، واليابانية. ومن طريف ما يروى في مناصرتها لحقوق المرأة أنها دعيت عام 1955إلى كلية دار العلوم لإلقاء محاضرة تحت عنوان "الفتاة فى كلية دار العلوم " فذكرت أن اللغة العربية ليست وقفًا على الرجال ، وأن أبواب كلية دار العلوم فتحت للفتاة بحكم التطور وأن أبواب الأزهرالشريف ستفتح كذلك ، وكان ذلك بحضور الشيخ أمين الخولى فرد عليها قائلًا: إن كنتن تردن أن تصبحن رجالًا فنحن موافقون، لكن مكان المرأة كان في التاريخ وسوف يكون فى المستقبل خلف الرجل، فردت عليه بنت الشاطىء قائلة: إن تعلم اللغة العربية لن يجعل منا رجالًا ، لكنه سوف يثبت أن المرأة لا تقل ذكاءً عن الرجل (3)
-
قضية الريف المصري: لا شك أن نشأة دكتورة عائشة عبد الرحمن فى الريف المصرى بين الفلاحين الأجراء المعدمين كانت لها تأثير بالغ على وعيها منذ الطفولة، حيث ظلت صورة هذا الفلاح البائس ماثلة فى وعيها، إلى أن ظهر ذلك فى أول كتاب لها تحت عنوان "الريف المصرى" الذي دافعت فيه عن الفلاح وأشارت إلى الظلم الواقع عليه ، ودعت إلى إصلاح أحواله وحل مشاكله على المستوى الاجتماعى والصحى والفكرى، ومن المهم أن نذكر أن هذا الكتاب قد حصل على إجدى جوائز الدولة في العلوم الاجتماعية.
-
قضايا الأدب العربى: إن تخصص دكتورة عائشة عبد الرحمن فى دراسة اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة قد جعل من قضايا الأدب العربي موضع اهتمامها الرئيسى فحصلت على الماجستير ثم الدكتوراه في موضوع "رسالة الغفران.. تحقيق ودراسة" لأبى العلاء المعرى، وقد ناقشها فى هذه الرسالة دكتور طه حسين باعتباره أكثر أساتذة القسم اهتمامًا بأبي العلاء المعرى. كما وضعت العديد من الكتب التى تناولت الأدب العربى منها كتابها عن "الخنساء"
-
اللغة العربية : لعله من نافلة القول أن نذكر اهتمام دكتورة بنت الشاطىء باللغة العربية، فتفسيرها للقرآن الكريم قائم – أساسًا – على فقه اللغة ومعرفة أسرار بيانها، ومع ذلك يمكن أن نذكر تأليفها لكتاب مهم تحت عنوان "من أسرار العربية فى البيان القرآني".
-
مجالات الإبداع الأدبى عندها: يمكن وصف الدكتورة عائشة عبد الرحمن بأنها أديبة مجيدة، وقد ظهر ذلك فى سيرتها الذاتية التى تحمل عنوان "على الجسر بين الحياة والموت" وهو عنوان مجازي لافت حيث شبهت طريق الحياة بالجسر وحذفت المشبه وصرحت بالمشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية، ثم جنحت إلى التضاد بين الحياة والموت، وهذا مما يزيد المعنى ويؤكده ويشعرنا بخطورة هذا الجسر المعلق ما بين حياة وموت. كما ظهرت قدراتها الأدبية فى مجال القصة القصيرة التى كانت تنشرها – تباعًا- فى مجلة "البلاغ" ومجلة "كوكب الشرق".
ويبقى أن نشير – فى النهاية – إلى أن دورها فى التدريس الجامعي لا يقل أهمية عن مجالات كتاباتها المتنوعة، فقد ظلت عشرين عامًا ركنًا علميًا رئيسيًا بكلية الشريعة فى جامعة القرويين بالمملكة المغربية، كما درست فى تسع جامعات عربية فى السودان والمملكة السعودية وغيرهما إلى أن انتهى بها المطاف للتدريس فى كلية البنات جامعة عين شمس، ومما هو جدير بالذكر أنها كانت أول امرأة تحاضر فى رحاب الأزهر الشريف. وقد ترتب على كل ذلك تكريمها من ست دول عربية وإسلامية، كما كانت أول امرأة تحصل على جائزة فيصل العالمية.
الهوامش :
(1)انظر "22عاما على رحيل بنت الشاطىء.. عائشة عبد الرحمن حارسة التراث وفقيهة التجديد" دكتور محمود الشرقاوي شبكة الإنترنت.
(2) مقدمة ابن خلدون مؤسسة الرسالة ص 759 بتصرف
(3) انظر "خناقة زوجية" جريدة الأخبار عدد 18ديسمبر 1955ص10
|