القاهرة 06 فبراير 2024 الساعة 09:59 ص
بقلم: د. شادي أبوريدة
المدرس بقسم الجرافيك بكلية الفنون الجميلة جامعة المنيا
في محطتهِ الخامسةِ والثلاثين، وَصَلَ قِطارُ الفنان المصري إسْلام الرَيْحاني بأعمالهِ الفنيةِ المبهجة إلى جاليري CLEG، بحي الدبلوماسيين بالشيخ زايد، ليتوقفَ عِدَّةَ أيامٍ، استعدادًا للانطلاقِ نَحوَ محطاتٍ أخرى أثيرة، وثرية بالنفحاتِ والوَشْوَشَاتِ اللَّونية والموسيقى البصرية، التي تُؤَنْسِنُ الجَمالَ وتُناغي الحَنين.. وفي كل محطةٍ وتجربةٍ فنية، كان الرَيْحاني يكتسبُ أرضًا جديدةً، وعوالِمَ ومساحاتٍ بصريةٍ أكثرَ اتساعًا ورحابةً، يَصِفُها الرَيْحاني في تقديمهِ لمعرضهِ، بقوْلِه: ((محطاتُ الحياةِ ما هي إلا وقفاتٌ، نرتشفُ حُلوها، ونتجرَّعُ مرها، دونَ اختيار))..
فمنذُ بداياتهِ التشخيصيةِ الواقعية - عندما كان طالبًا بكليةِ الفنونِ الجميلة بالمنيا – كانت أعمالهُ الفنية لا تخلو من الطابَع الرومانسي الحالِم، والحِسِّ التعبيري المُرْهَف، ثم أرْدَفَ إلى المدرسةِ المستقبلية، ليَنْهَلَ من إيقاعاتها، وموسيقاها المتحركة، فهو فنانٌ لا يَرْكَنُ إلى مدرسةٍ فنيةٍ واحدةٍ، لِيَسْكُنَ فيها فَيُسْجَن، ولا يعترف بالجُمودِ، وأسطورة الأسلوبِ الواحد، والقالب الفني المتكرر، ممتلكًا كمًا هائلًا من الصُوَرِ الذهنيةِ، والمخزونِ الإبداعي، وروحًا متجددةً شغوفة سارية بخفةٍ ورشاقةٍ عَبْرَ مُنْتَجه الفني، وإن كان الرَيْحاني ينتقلُ من حقلٍ أسلوبي إلى آخر، ببطءٍ وحذرٍ وَرَوِيَّةٍ، في محاولةٍ منهُ ألا يبتعدَ كثيرًا بأسلوبهِ الفني عن الواقعية، رغبةً في الجمعِ بين جماليات الكلاسيكيةِ التزيينيةِ، والصياغاتِ الأسلوبيةِ المعاصِرَة، مُتحررًا – بشكلٍ تدريجي – من المعالجةِ والطرْحِ التعبيري المباشر، نحو تعبيرٍ تأويلي متدفق، يَخْلُقُ جَلَبَة، وصخبًا وجدانيًا عميقًا، دونَ أن يُرهقَ المشاهدَ بجهدٍ تَخَيُّلي أو ذِهني زائد.
ورغم وُلُوجِهِ بواباتِ المُعَاصَرة، وتَخَطِّي عتباتها بثباتٍ ومعرفةٍ ونضوج، إلا أنه لم ينطلق بعدُ إلى الداخلِ مبتعدًا عن تلك البوابات، ربما من أسبابِ ذلك حِرْصَهُ أن يتوجهَ بفنِّهِ إلى شرائح أوسع من الجمهور، وإلى عمومِ المتلقين من مختلف المَشارِبِ والمرجعياتِ الاجتماعيةِ والثقافية، وليس فقط إلى الفنانين والمشتغلين بالشأن التشكيلي، من خلالِ مشاهد مقروءة باذخة الجمال، بلغةٍ بصريةٍ بسيطة، بلا هالاتٍ كثيفةٍ من الغموضِ، تَلْتَفُّ حوْلَ مفرداتهِ البصرية وتُطَوِّقُها، فتحجبُ الرؤيةَ والقراءة، أو أسوار مشفرة غير مثقوبةٍ من الرموزِ والطلاسمِ، يَصْعُبُ اختراقها والنفاذ منها لاستيعابِ المفهومِ والمدلولِ والمعنى المُسْتَتِر، أو إدراك ماهيَّة الأشكال والعناصر وكُنْهها، لكنه بذلك يواجهُ تحديًا خاصًا، وهو الإفلاتُ من المشابهةِ مع الأساليبِ والأشكالِ البصريةِ المُسْتَهْلَكَة، وفرض شخصيتهِ المتفردة، وهو يمتلك ما يؤهله للنجاح في هذا التحدي.
ورغم أن معرضه الذي عَنْونَهُ: محطة 35 ((STOP 35 - وهو عدد سنوات عمره في ذلك الوقت - قد افْتُتِحَ في شتاءِ عام 2022م، في التاسعِ عشر من فبراير، إلا أن زائره كان يشعرُ مباشرةً بحميميةِ ودِفْءِ الربيع ونسماته العليلة، بمجرد أن يدلف إلى قاعةِ العرض، فالألوانُ مزدهيةٌ، مُتْرَعَةٌ بالشغفِ والتَّوهجِ والأَلَق، عَبْرَ دَفَقٍ من المقاماتِ اللَّونية، تشتعل أحيانًا بالأحمرِ والبرتقالي والأصفر، وتَخْبُو متأرجحةً متعادلة حينًا آخر، ثم تَبْرُدُ بدرجاتِ الأزرقِ والرمادي والأبيضِ الثلجي، في حالةٍ من الاحتواءِ والحُنوِّ بين الألوانِ، ومفرداتِ الطبيعة، كأن نسيمًا باردًا قد لفَّها وخالطها، فزادها بريقًا وتوهجًا وشجنًا ساحرًا مُخَدِّرًا، فاستثارَ عبيرها وعطرها، مما أضفى على أعماله حالةً من التوازنِ، والتوليف الدينامي الذي ينأى عن الوقوعِ في حَذْلَقاتٍ مُصْطَنَعَةٍ، وبَهارِج لونيةٍ مُرْبكة للأعينِ والمشاعر.
حيث يمرر الرَيْحاني ألوانه أولًا عبر ذائقتهِ البصريةِ، وخبراتهِ الجمالية، كأنه يمزجها في وِعاءِ خيالهِ ووجدانهِ وروحه، قبل خَلْطِها على باليت الرسم، لذلك فهو يستطيعُ دائمًا الحصول على تركيباتٍ لونيةٍ متجددة متَّزنةِ المقادير، يتحكَّمُ من خلالها ببراعةٍ في مقدارِ الضوءِ الذي يتلألأُ في فضاءاتِ لوحاته، وينسابُ على أسطحها، وكثافة الظلالِ التي تحتضنُ الضوءَ وتحتويه، مما ينْزِعُ عن الألوانِ هُويتها الأصلية الساكنة، وصفاتها السطحية الخاملة، فيثيرها ويستنطقها ويُعِيدُ تَمَوْقعها النفسي والروحي الداخلي، لتحيا حَيَواتٍ أخرى، تُطرب الأعينَ وتُحيلُ إلى أُطرٍ وامتداداتٍ خياليةٍ طوباويةٍ غَيْر مرئية، ومناخاتٍ بِكْرٍ لمشاهد سينمائية سبعيناتية مُضَمَّخَة بالطِيبِ والألوان الزاهية، ألوان زجاجية سخية تَشِفُّ السطحَ والعُمْقَ والوجدان في آن، وتدفع للتأملِ إلى ما وراء اللون ومحفزاته ومثيراته، في حالةٍ بديعةٍ من الهجرةِ إلى الداخل، رغم استخدامهِ لخامةِ الألوانِ الزيتية، التي تحتاجُ إلى تَمَرُّسٍ طويلٍ لتبوحَ بأسرارها، من خلالِ تِقنياتٍ تُضيءُ المَعْنى وتُجْلِيه.. أما خطوطهُ المنفلتةُ الهائمة في فراغِ كونِه في شقاوةٍ وانطلاق، فهو يترك لها الحريةَ الكاملة لتقرر وتَرْسُمَ مسارها، وتعزف ألحانها العذبة، بفرشاتهِ السَلِسَة الطَيِّعة شقراء الشعر، من خلالِ دُرْبَةٍ خطيةٍ تُدَوْزِنُ النغمات، فَتُنْتِجُ جملًا بصريةً موسيقيةً بلاغية.
ورغم اهتمام الرَيْحاني البالغ بالمرأة، كإحدى أهم مفرداتهِ الحيوية، كما في أعمالهِ، بعُنوان: (ذكريات – في انتظار الربيع – عازفة البيانو – سيمفونية – عازفة الكمان – القرين – أمام المرآة – الجليس – حلم... إلخ)، فإنه لم يَغْفَل أيضاً دورُ الرجل في خِضَمِّ اهتمامهِ الملحوظ بالمرأة، كما في عمله بعُنوان (عازف التشيللو).. وكثيرًا ما يحتفي أيضاً بالحيواناتِ، والطيورِ، والأسماكِ، والنباتات، ويستضيفها في فضائه كمنتخباتٍ رمزية، فالطبيعةُ بعناصرها ومفرداتها هي مصدرَ إلهامه الأول، بل هي جُلُّ إلهامه، فهي المَعِينُ الدافقُ الذي لا يَنْضَبُ، والبيئةُ التي يَسْتَلُّ منها مادةَ ذاكرتهِ البصرية، من خلال تكويناتٍ خطيةٍ ومساحيةٍ، تُصْهِرُ في بَوْتَقَتِها الحَدَّ الفاصلَ بين الكائنات، فتَخْتَلِطُ جغرافياتها ولغاتها، وتذوبُ فروقها النوعية وأجناسها المختلفة، في حالةٍ من التَكْثِيفِ والتَقْطِيرِ الجمالي، المُلَقِّح لرَحِمِ الأرض، فَتَنْبتُ وتَتَفتَّحُ خلال متواليةٍ ابتهاليةٍ تصاعدية، تملأُ الآفاقَ جمالًا وحياة، ثم تنحني سريعًا لتأخذَ مسارها الحتمي نحو مَنْبَتِها الأوَّل، ومستقرها المؤقت، في انتظارِ الخروج الأخير.
إن الطبيعةَ ملجؤهُ وملاذهُ، ومهربهُ من واقعٍ محتدم الصراع، مختنق بالضغوطات والمعاناة، كأنه يصنعُ عالَمَهُ الهيتروتوبي Heterotopia الموازي، ويستحضرُ روحهُ الداخلية المُحِبَّة للحياة، في محاولة للانعتاقِ من فوضى العالم، واكتشاف ضِفافٍ جديدةٍ من الدَّهشةِ والخيال، أو كما قال الشاعر التشيلي بابلوا نيرودا (1904 – 1973م): ((بإمكانك أن تقطعَ كلَّ الورود، لكنك لا تستطع أن تمنعَ الربيع من أن يأتي)).. وفي ذاتِ المعنى، يقول الشاعرُ الصوفي الفارسي، جلال الدين الرومي (1207 – 1273م): ((وإنْ أماتُوا زهرةً في جَوْفِكَ، فبستانكَ ما زال حيًا)).
وأخيرًا، يمكننا الإشارة إلى أن الرَيْحاني يُجيدُ تَمسْرُح عناصرهِ في فضاءاتِ أعماله، وحَشْد مشاعرهِ داخلها، في حالةٍ من الاندماجِ النفسي، والترابطِ البصري، الذي يَرْسُمُ مساراتِ الرؤيةِ لعينِ المشاهدِ، فَيُنْتِجُ بنيانًا تكوينيًا راسخًا ومُحْكَمًا، وحَبْكَةً دراميةً ناجحة، إلا أنهُ يَنْقُصهُ التنويع بين زوايا الرؤية، وأن لا يكتفي بالتركيزِ على المشهدِ الأمامي، الذي نَلْحَظُهُ بكثرةٍ في لوحاتِهِ، وبخاصة فيما يتعلَّقُ بعناصرِ تكويناتهِ الرئيسية، كالمرأة أو الجسد البشري بشكلٍ عام.
|