القاهرة 31 يناير 2024 الساعة 05:40 م
بقلم: أحمد محمد صلاح
جاءت الفلسفة الرواقية مناقضة لفلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو، فقد أقام هؤلاء فلسفتهم على أساس البحث النظري قبل كل شيء، أما الرواقيون فلم يأبهوا بالآراء النظرية ولم يعيروها من عنايتهم ودرسهم إلا بمقدار ما تكون سبيلًا إلى الجانب العملي من الحياة، فليست الفلسفة عندهم أن يتقصى الإنسان بنظره الأرض والسماء ثم يقف عند هذا الحد لا يعدوه، إنما هي -كما عرفوها- فن الفضيلة ومحاولة اصطناعها في الحياة العملية.
وفي كتاب قصة الفلسفة اليونانية الذي ألفه زكي نجيب محمود وأحمد أمين، يقولا: "أراد زينو إذن أن يحيا حياة فاضلة تقوم على أساس من الخلق القويم، ولكن من له بهذا الأساس؟ وأين يجده؟ إنه يريد عمادًا ثابتًا وطيدًا لا تتزعزع قوائمه مع اختلاف الزمان والمكان، فالتمس بادئ ذي بدء كراتس الكلبي عسى أن يصادف عنده أساسه المنشود، ورافقه زمنًا طويلًا، حتى أخطأ فريق من أتباع زينو فاعتبروا أنفسهم ورثة للفلسفة الكلبية التي تفرعت عن فلسفة سقراط، وكانوا يتخذون سقراط وديوجنيس وأنتسثنيس أمثلة عليا لما يجب أن يكون عليه الحكيم، وإذن فقد كان غرضهم الأسمى هو غرض المدرسة الكلبية بذاته: سعادة الإنسان واستقلاله بفضيلته، وكان تعريف الفلسفة عندهم هو تعريفها عند ذلك المذهب الكلبي: عمل الفضيلة، وقاسوا قيم الأبحاث النظرية بمقدار اشتراكها في بناء الحياة الأخلاقية، ولكن فات هذا الفريق أن مذهب زعيمهم زينو لم يكن هو بذاته مذهب المدرسة الكلبية ولا هو تهذيبه فحسب، بل إنه شيء آخر جديد خلقه زينو خلقًا وأنشأه إنشاءً، وإن يكن قد استقى عناصره من سابقيه.
ويؤكد الكاتبان أن الرواقيون لم يتفقوا اتفاقا تاما في فلسفتهم ، فهيرليوس مثلا يقول أن المعرفة وحدها هي الخير السمي وأنها غاية الحياة المثلى، ولكن أرستون من نفس المدرسة فيعارضة ويسخر من كل ضروب المعرفة، فيقول "فإن كانت تلك المعرفة متعلقة بماء وراء الطبيعة فهي محاولة فاشلة، فهيهات لهذا العقل البشري العاجز أن يصل إلى شيء مما وراء الطبيعة، وأما إن كانت المعرفة بحثًا في الطبيعة المادية نفسها فهي عبث لا غناء فيه، وكأنما أراد أرستون بذلك أن يحصر الرواقية في حدود الفلسفة الكلبية فلا تعدوها، بأن ركز القيمة كلها في الأخلاق وحدها"
ولنستعرض فلسفة المنطق الرواقي من كتاب قصة الفلسفة اليوناينة، فيقول المؤلفان: "أن زينون والذي تاثر بأرسطو وقد يكون أضاف إليه حيث أنكر الرواقيون ما ذهب إليه أفلاطون من أن في النفس مُثلًا جاءتها بالفطرة منذ الولادة، ولم تُكتسب من العالم الخارجي، وزعموا أن نفس الطفل عند ولادته تكون صفحة بيضاء خالية من كل أثر وصورة، ثم لا تلبث أن تتوارد على حواسه آثار منبعثة من الأشياء الخارجية فتنطبع صورها في لوحة الذهن كما تنطبع صورة الختم على قطعة الشمع، وإذن فالعقل قابل للآثار الحسية منفعل بها، وقد يكون له أثر فعال، ولكن على ألا تتجاوز تلك الفاعلية ما تقدمه له أعضاء الحس من مادة، فهو لا يخلق من عنده شيئًا، إنما ينحصر تصرفه في هذه الدائرة الضيقة وحدها، يشكل فيها ويصور من أجزائها كيف شاء، وإذن فمعين المعرفة كلها هو العالم الخارجي، يرسل إلينا أسباب العلم فتسلك إلى أذهاننا سبلًا خمسة، هي الحواس، وليس سوى ذلك علم ولا معرفة خلافًا لما ارتآه أفلاطون «من أن العقل وحده مصدر المعرفة تنبع منه لأنها مطبوعة فيه وأما الحواس فهي لا تؤدي إلا إلى الوهم والزلل»، نعم أنكر الرواقيون ما أثبته أفلاطون من أن هذه المدركات الكلية -أو بعبارة أخرى أسماء الأجناس كإنسان وحصان وشجرة صور لحقائق ميتافيزيقية موجودة فعلًا خارج حدود أذهاننا، فتلك الإدراكات الكلية إن هي إلا أفكار في عقولنا نحن، انتزعناها مما صادفنا في الحياة من جزئيات، فجمعنا كل طائفة من الأشباه في جنس واحد، وأطلقنا عليها اسمًا مشتركًا، فليس لهذا الاسم المشترك مدلول خارج نفوسنا.
وما دامت المعرفة كلها إنما صدرت عن الأشياء المحسة فالحقيقة هي المطابقة بين ما ينطبع في أذهاننا من آثار وبين الأشياء الخارجية نفسها، أو بعبارة أخرى هي تطابق بين صورة الشيء في أذهاننا وبين الشيء نفسه، ولكن كيف السبيل إلى معرفتنا أن هذه الأفكار التي تحملها رءوسنا نسخ صحيحة لأشيائها في الخارج، ما يدريك أن صورة الشجرة التي في ذهنك تنطبق على مسماها، ولم لا تكون هذه الأفكار من لعب الخيال وصنع الوهم؟ أثمة مقياس نقيس به الحقيقة فنميز بين الفكرة الصحيحة والفكرة الزائفة؟ يجيب الرواقيون أنْ نعم، ولكنه ليس في هذه الإدراكات الكلية لأنها صنيعة أذهاننا، فهي التي كونتها وركبتها مما أتت به الحواس، قد رأيتَ زيدًا وعمرًا وأحمد وخالدًا فكوَّنتَ لنفسك من هؤلاء صورة سميتها «إنسانًا»، فلا يجوز لك بحال من الأحوال أن تتخذ هذا الذي كونته لنفسك بنفسك مقياسًا تميز به الباطل من الصحيح، وإذن فلا حق إلا هذه الآثار الحسية نفسها؛ وعلى ذلك فمقياس الحقيقة لا بُدَّ أن يكون في دائرة الإحساس ولا يتعداها؛ مقياس الحقيقة هو الشعور لا الفكر.
ويرى الرواقيون أنَّ الأشياء الحقيقية تبعث فينا شعورًا قويًّا واضحًا، أو اعتقادًا بأنها حقيقة، وهذه القوة وهذا الوضوح في الصورة التي تنبعث في الذهن من شيء حقيقي كفيلان بتمييز الصور الذهنية الصحيحة التي تمثل حقائق خارجية من الصور التي نسجتها الأحلام وركبها الخيال، فالشيء الحقيقي إنما يفرض نفسه على نفوسنا فرضًا، وليس لإنكاره من سبيل؛ إذ يقوم في النفس اعتقاد جازم بأن هذا الشيء المعين موجود فعلًا في الخارج، فهو حقيقة مؤكدة، وهذا الاعتقاد هو وحده مقياس الحقيقة.
وإذن فقد عادت الفلسفة أدراجها كرة أخرى، واتسمت بالطابع الشخصي، وأصبح مقياس الحقيقة ليس قائمًا على العقل وهو عنصر عام، بل على الشعور وهو عقيدة شخصية محصورة في الفرد".
وقد أصبحت حديقة إبيقور عنوانًا على البحث الفلسفي في الأخلاق واعتمادها على اللذة العقلية، وعلى الصحبة الفلسفية لتبادل الآراء. وقد شاع عن إبيقور أن مذهبه هو الإقبال على اللذة، والحق أن أحدًا لم يُظلم مثلما ظُلم إبيقور، إن في سيرته أو في مذهبه. وقد أشاع عنه خصومه الشائعات وألصقوا به التهم جُزافًا. وأكبر الظن أن خصومه في الفكر هم الرواقيون أصحاب الرواق، والذين كانت مدرستهم تُنافس حديقته. قيل مثلًا إن أمه كانت كاهنةً مشعوذة، وكان يطوف معها من دار إلى أخرى يُرتِّلان الأدعية الدينية. كما كان يُساعد أباه في مهنة تعليم الصبيان لقاء أجرٍ ضئيل. ولو صحَّت الرواية السابقة عن أمه، فيكون في ذلك السر في كراهية إبيبقور فيما بعدُ للخرافات الدينية التي تميَّزت بها تعاليمه.
|