القاهرة 09 يناير 2024 الساعة 12:21 م
قصة: جراتسيا ديليدا - إيطاليا
ترجمة: منة الله عادل
نساء جالسات تحت المظلة على حوض السباحة وفتيان وشباب شبه عراة يعرضون أجسادهم للشمس، ورؤوسهم في الظل، يتمددون في محيط حمام السباحة، "وأنا شاهدة على هذا الحدث الاستثنائي بنفسي" ورجل مسن يتوجه إلينا بحديثه ويقول: "منذ نعومة أظفاري كنت أجد متعتي في حضور جلسات محكمة الجنايات. فليس ثمة مكان يمكن للإنسان أن يتعرف فيه على الحياة أفضل من هذا المكان، بكل ما فيه من بؤس ومن شغف، وبكل ما فيه من عظمة، في بعض الأحيان. سأقص عليكم الآن بعضًا من هذه القصص، فالوقت متاح لدينا، واليوم أحب أن أبدأ بقصة لا زالت تؤرقني وتثير شجوني، ورغم مرور نصف قرن عليها، تعود إلى ذاكرتي في مناسبات عديدة. إنها قصة رجل مسن يتشح بالسواد ويجلس على المقاعد المخصصة للمتهمين.
بعد الانتهاء من الإجراءات المعتادة، تمت دعوة الرجل للإدلاء بأقواله. نهض الرجل ببطء. كان طويل القامة، وجهه داكن نحيل، حتى بدا وكأن وجنتيه ملتصقتان بفمه، تتدلى جفونه المُتعَبة فوق عينيه اللتان يُرَى لونهما السماوي، كما لو أنه استيقظ من نومٍ عميق.
قال العجوز بصوت هادئ وحزين: "هذه هي الحقيقة"، قال ذلك دون أن يتطلع في أي شخص. "كنت في ذلك الحين موظفًا بالجمارك أتقاضى أجرًا مناسبًا كي أحيا أنا وزوجتي حياةً هادئة حتى أصابها المرض، واحتاجت إلى إجراء عملية جراحية، تلتها عملية جراحية أخرى؛ وبعدهما لم تسترد زوجتى عافيتها قط؛ وافقت على العمل ساعات إضافية، لكسب المزيد من المال، وكنت أعود في المساء خائر القوى حتى إن زوجتي نفسها توسلت إليّ أن أخرج لاستنشاق الهواء النقي، واحتساء كأس من النبيذ. وفي إحدى الأمسيات التقيت ب "الساقطة". كنت قد تعرفت عليها، حين كانت تعمل خادمة في منزل أحد أقاربى وكان الجميع يمازحونها إذ سارت في طريق الرزيلة الذي اختارته لنفسها. وهكذا اقتادتنى إلى منزلها. لقد قمت بزيارتها ثلاث مرات فقط.. وفي المرة الثانية وجدت عندها رجلا، وكانا يتجادلان ويظهر عليه الانزعاج الشديد لدرجة أنه لم يلحظ حتى وجودي. وعندما مضى الرجل إلى حال سبيله، أخبرتني أنها خائفة منه، تخاف أن يقتلها ذات مرة، ليس بدافع الغيرة أو أي شيء آخر، ولكن لمجرد أنه يكرهها .
لم تفصح لي المرأة عن هويته. وفى المرة الثالثة ... (وهنا صمت المتهم لبرهة وكأنه يحاول أن يتذكر شيئًا). ثم استطرد، بصوت خفيض وكأنه يحدث نفسه: "أنا رجل مسيحي الديانة ومؤمن ولدي يقين راسخ في الرب وفي عدالته. باسم الرب القدوس، أقسم أن ما أقوله هو الحقيقة. واستأنف الرجل حديثه بصوت أعلى وقال: "في المرة الثالثة مكثت وقتًا قصيرًا في بيت هذه المرأة. كان رأسي يؤلمنى بشدة من كثرة العمل، أو ربما لأنها كانت أمسية قائظة وعاصفة وبينما كنت أغادر ذلك المنزل، رأيت الرجل الذي كانت تخافه المرأة وهو يدخل المنزل. قمت بنزهة قصيرة على ضفاف النهر، عدت بعدها إلى منزلي، على ما أذكر، بسبب هبوب الرياح الشديدة والسماء التي بدأت تمطر. في اليوم التالي تم القبض عليّ بتهمة قتل المرأة. في التحقيقات الأولية، كنت أدافع عن نفسي بشدة ووجهت الاتهام للرجل الذي أحسبه الجاني الحقيقي. لكن لم يكن في استطاعتي وصفه بالقدر الكافي. لم أكن أعرفه، ولكني أعتقد أنه من بلد آخر، بل أنا على يقين من ذلك. لكن لم يستمع إليّ أحد. فقد را?نى جيران المرأة الساقطة وأنا أدخل إلى منزلها في ذلك المساء ولم يشاهدني أي منهم عندما خرجت ودخل الرجل الآخر، فقد احتموا داخل منزلهم بسبب ذلك الطقس المخيف. ولم يمر سوى وقت قصير حتى وافت زوجتى المنية.. ماتت من حسرتها وشعورها بالخزي والعار. قصمت هذه المحنة الجديدة ظهري، فتقوقعت على نفسي، بسبب ذلك العقاب الذي نزل بي، ورغم ذلك كنت أصلي وأترقب عدالته الإلهية. ثم بدأت جلسات المحاكمة، وكانت رتيبة، لا مذاق لها، وكان شهود الاتهام هم جيران تلك "المرأة الساقطة".
أكد جميع الشهود أنهم رأوا الرجل الذي يجلس الآن على مقاعد الاتهام وأنه جاء لزيارتها ليلة جريمة القتل ولاحظوا عليه الاضطراب والتوتر وطريقة التسلل التي كان يقترب بها من منزلها. وقالت امرأة نحيفة منهم، حقودة، وربما أيضًا هستيرية، أنها سمعت صراخ المرأة، بعد وقت قصير من وصول الرجل، وهي تقاوم ضد اعتدائه عليها، بالتأكيد؛ وأدلى شهود آخرون، من زملاء المتهم، بشهادتهم حول سلوكه غريب الأطوار والذي ينم عن أنه مصاب بالجنون. ظل الرجل يستمع دون أن يتحدث مرة أخرى وهو يطأطئ رأسه كما لو كانت في مرمى ضربات الجميع.. لم يرفع نظره قط، بعد أن دخل إلى قفص الاتهام، وفي بعض الأحيان بدا وكأنه غائبًا، وكأن المحاكمة لا تخصه. لكن أحد القضاة وجه له بعض الأسئلة: نهض الرجل من مكانه ببطء، مثلما فعل في المرة الأولى، وبدا عليه السخط من شدة حساسية الأسئلة الموجهة إليه؛ ثم استفاق من جديد، وبدت عيناه مثبتتين على قُضاته في خوف. وفجأة أُصيب برعدة عصبية وسقط على الأرض في حالة إغماء. فتم رفع الجلسة للحظات. ثم عاد الرجل إلى وعيه ونهض من جديد، بدا وكأنه عاد من الموت. وقال: "أرجو من المحكمة أن تستمع إليّ مرة أخرى. فالجاني هنا بيننا. وقد قدر لي الله أن أتعرف عليه وأن تتحقق عدالته. وقد لاحظ الجاني أيضا أنني تعرفت عليه، ويريد الهروب ولكنه لن يستطيع.
سادت لحظات من الصمت المطبق، وظل الجميع بلا حراك وكأنهم تحولوا إلى تماثيل من الملح. ثم بدأوا يتبادلون النظرات وبعضهم يبتسم، وآخرون يسخرون منه. وفي النهاية طلب رئيس المحكمة من المتهم أن يشير إلى الجاني.
فقال: "الجاني واحد من القضاة".
كانت هذه الضربة أقوى من الأولى، اهتز على أثرها القضاة، وظهر عليهم الازدراء، وتوجهت أنظار الجميع نحوهم. فطلب رئيس المحكمة تعليق الجلسة، لكن المتهم توسل إليه للسماح له باستكمال حديثه. "لن أشير إلى أحد، في الوقت الحالي. أتوجه فقط إلى الرجل الذي أظنه الجاني وأقول له: اثبت أنت بنفسك براءتي، حتى لو كان ذلك عن طريق هروبك من المحكمة، وأنا لن أشير إليك. فقد رضيت حتى الآن بمعاناتي وكنت أيضًا على استعداد لقبول العقوبة للتكفير عن ذنوبى: خطيئة الزنا، خطيئة موت زوجتي من الألم؛ ولكن بما أن الله قد وضعك أمامي، فهذه علامة على أنه يريد أن تتحقق عدالته. كان المتهم ينظر نحو الجناح الأيمن من هيئة المستشارين، وفي الحقيقة، رغم الرفض الذى بدا عليهم فى أول الأمر، ظهر على ملامح كل منهم نظرات الشك في الآخر؛ غير أن نظرات عين المتهم بدت شديدة الثبات، ولم يكن أحد يصدق كلمات المتهم، ورغم القشعريرة التي أصابت جسده، فقد بدت نظرات عينيه شديدة الثبات. وبينما أصر رئيس المحكمة على رفع الجلسه، أضاف الرجل، وهو يمرر يده على جبهته، بصوت مرتعش: إلهي! يا إلهي! حانت الآن ساعة تنفيذ وعدك يا ربي. وهذا ليس من أجلي، بل من أجل الرجال غير المبصرين بالحق، ليس من أجلي، إنما من أجل هؤلاء الذين لا يؤمنون بعدالتك. قدم لهم الدليل على أن عدالتك لا تتحقق فقط بعد الموت. كان الرجل يردد تلك الكلمات بإيمان راسخ حتى سرت رعدة في أجساد الجميع. وبدا الشحوب على وجه الرجل أكثر وأكثر، وكأنه صار شفافًا: وبدأت قطرات العرق تتساقط من بين أصابعه، قطرة فقطرة. وفي اللحظة التي أعلن فيها رئيس المحكمة تعليق الجلسة ونهض من مكانه ليغادر القاعة، والجميع أيضًا يغادرون، ترنح واحد من القضاة وسقط فوق زميل له كان يستعد لالتقاطه.. ولكن القاضي لم يفق؛ وتم نقله إلى المستشفى ووافته المنية بعد ساعة واحدة. وبعد التحقيقات التي أجرتها العدالة، ثبت بالدليل القاطع أن القاضى هو الجاني الحقيقي.
|