القاهرة 02 يناير 2024 الساعة 04:02 م
كتب : د. حسين عبد البصير*
مصرُ هي مهدُ وأرض الحضارات؛ ففي مصرَ وُلد التاريخُ والحضارة البشرية منذُ آلاف السنين، وأينما تذهب تجدُ حتمًا جزءًا ما من تاريخ مصر، وكذلك مِن تاريخ العالم؛ لذا فلن نكونَ مُخطئين إذا قلنا إنَّ مصرَ والتاريخ توأمان متماثلان في كلِّ شيء. فقد ظهرتِ الحضارة مبكرًا في وادي النيل ودلتاه المصريَّتين. ويجد المرءُ أنَّه من الصعب اختيارُ نقطة زمنية معينة يسرد منها قصةَ التاريخ المصري المثيرة والشيِّقة؛ فمصرُ موغلةٌ في القدم قدمَ الزمن نفسه.
وإذا تغاضينا عنِ البداية المبكرة لظهور الإنسان على الأرض المصرية، والذي كان ظهورُه من بين أوائل الأجناس البشرية التي عرفتها القارةُ الأفريقية، فإن معرفة المصري القديم لحرفة الزراعة المنظَّمة والمستقرَّة على ضفاف نهر النيل العظيم في حوالي الألف السادس قبل الميلاد؛ تعدُّ في رأيي هي البداية الحقيقية لنشأةِ الحضارة المصرية التي سوف تستمرُّ آلاف السنين.
شكَّل نهرُ النيل المصدرَ الأساس لنشأة هذه الحضارةِ المصرية العريقة التي جعلت "أبو التاريخ" المؤرِّخ الإغريقي الأشهر "هيرودوت" يصفُ الحضارةَ المصرية بـ"هبة النيل"، وهو وصفٌ لا يخلو من منطقيَّة ووَجاهة، غير أنَّ صحةَ وصفِه يجب أن تكونَ على هذا النحو "مصرُ هبةُ النيل والمصريّين"؛ فلولا المصريون لما نشأتِ الحضارة المصرية العظيمة على ضفاف النَّهر العظيم الذي يمرُّ بدولٍ أفريقية عديدة لم تنشأ بها حضاراتٌ بلغت ما وصلتْ إليه الحضارة المصرية من تقدُّم واستمرارية وازدهار. وكان يمتاز الإنسانُ المصري- البنّاء العظيم صاحبُ ومشيد هذه الحضارة الفريدة والبناء والتحضر والميل إلى السلم- بعشق العمل وإتقانه والدَّأب والصبر والصمت والهدوء والحلم، وتحمُّل الشدائد والإيمان والتسامح.
تقع مصرُ في الركن الشمالي الشرقي من القارة الأفريقية، وتمتدُّ في جنوب غرب آسيا من خلال شبه جزيرة سيناء، بوابة مصر الشرقية والمدخل الرئيس للغزاة إلى الأرضِ المصرية عبرَ التاريخ. وجعل هذا الموقع الجغرافي المتميز من مصر ملتقى للحضارات، وبوتقة لتلاقي الثقافات، وجعلَ- كذلك- منها مطمعًا للغُزاة والطامعين والمحتلّين عبر تاريخها الحضاري الطويل.
أؤكدُ ثانيةً أنَّ مصرَ لم تكن هبة النيل فحسبُ كما قال المؤرخ الإغريقي هيرودوت؛ بل إنَّ مصر هي هبة النيل والمصريين، لأنَّه لولا جهدُ الإنسان المصري وعطاؤه ما كانت الحضارة المصرية، ولأنَّ نهر النيل يمرُّ ببلادٍ عديدة قبل أن يصل مصر ولم تزدهرْ بها حضاراتٌ عظيمة مثل الحضارة المصرية؛ إذًا فمصرُ هي هبة النيل والمصريّين معًا.
وساهم اعتدالُ المناخ في نشاط المصريّين ونشأة وازدهار الحضارة في أرض مصر المباركة، أو "كيمت تا مري" أي: "مصر الأرض المحبوبة" كما أحبَّ المصري القديم أن يطلقَ على بلاده مصر العظيمة. وساهم الجفافُ في حماية والحفاظ على الآثار المصرية. وكان الإنسانُ المصري المدني والمتحضِّر بطبعه الشَّريكَ الأعظم والمساهم الأكبرَ في نشأة وتكوين حضارة مصر الخالدة في دلتا النيل والوادي الخصيب.
فقد كان الإنسانُ المصري القديم من العبقرية بمكانٍ أنِ استطاع بذكاء شديد، وتفرُّد ليس له مثيل أن يوظفَ كلَّ ما هيأه اللهُ له في الطبيعة المحيطة به كي يبدعَ الحضارة المصرية العظيمة. وممّا لا شك فيه أنه لولا عبقريةُ الأداء وروعةُ الإبداع من قِبل الإنسان المصري القديم ما كانتِ الحضارة المصرية القديمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مدير متحف الآثار-مكتبة الإسكندرية.
|