القاهرة 21 ديسمبر 2023 الساعة 01:12 م
قصة: جراتسيا ديليدا – إيطاليا*
ترجمة: أروى مجدى
* جراتسيا ديليدا أديبة إيطالية وهي أول امرأة تحصل على جائزة نوبل في الآداب
تذكرت دوقة فلوريس أنها في فترة شبابها البعيد، عندما كانت تريد جذب رجال ممن عُرفوا بالذكاء أو بالشجاعة إلى صالونها، اعتادت أن تخبرهم بطريقة لطيفة وغير مباشرة أن نساءً شابات وجميلات ستشاركن في اللقاءات الثقافية.
ورغم أنها الآن صارت عجوزَ في الثمانين من عمرها، إلا أنها لا زالت مفعمة بالحيوية والدهاء واليقظة ولا زالت تتمتع بروح الشباب، على الرغم من الوحدة التي فرضها عليها تضاؤل ثروتها، مما أجبرها على العيش في إحدى الفيلات الريفية الخاصة بها.
لا تزال الدوقة تستخدم الأسلوب نفسه لجذب أحفادها الكثيرين الذين يعمل جميعهم تقريبا كضباط لامعين وينتشرون في مختلف وحدات الجيش الإيطالي.
كانت الدوقة العجوز حين تعلم أن أحدهم خرج في إجازة تكتب إليه خطابا تدعوه فيه إلى فيلتها لقضاء ثمانية أيام أو ثلاث أو حتى يومين في منزلها الريفي، ولا يفوتها أن تلمح له بدعوتها لبعض الشابات الجميلات. وإذ كانت الجدة على دراية كاملة بأذواق أحفادها، كان الطعم يختلف وفقا لاختلاف الأذواق: ولهذا السبب كتبت الدوقة لحفيدها العشريني بنيامين (وهو اسم على مسمى) أن الضيفة التي دعتها للقاء، وهي حفيدة لإحدى صديقات شبابها، تشبه زهرة اللوتس شاحبة اللون التي لا زالت تطفو على صفحات مياه شبابها النقي الصافية.
في ذلك الحين، كان بنيامين يبلغ من العمر عشرين عاما: وهو ابن وحيد لإحدى حفيدات الدوقة وأبوه أحد رجال الصناعة الأثرياء، وقد نشأ الفتى بين إهمال أبيه وعدم اكتراثه له وترف أمه وثرائها الفاحش، مما جعل حياته مرتعا خصبا للمغامرات والتجارب السيئة وسجله يحفل بالعديد من الصداقات السيئة، ومحاولة للهرب من منزل والديه، وبعض الإخفاقات المتكررة التي تنضج كل عام مع مواسم حصاد قرع العسل: رسوب على مدار ثلاثة سنوات متتالية في الكلية الحربية، ديون من لعب القمار، وأشياء أخرى صغيره، وعلى الرغم من ذلك كله، فهو ملازم في سلاح الفرسان، شاب وسيم، يبلغ طوله مترًا وسبعين سنتيمترا وعرض صدره ثمانية وتسعين سم. لم تكن لدى بنيامين حتى ذلك الحين خبرات نسائية وكان يحلم بفتاة يكون هو الحب الأول والأخير في حياتها.
والدوقة تعرف ذلك.
لم يكن بنيامين يحب الحياة العسكرية، لأنها تشبه إلى حد ما القمر، فهي تبدو لامعة للناظرين من بعيد ولكنها حياة قاسية متحجرة، ولهذا السبب لم يكن يحب حتى الزي العسكري، فارتدي ملابس مدنية للذهاب إلى منزل الدوقة.
كانت الرحلة طويلة ومملة، لكنه التقى في القطار لحسن الحظ بزميل له في الكلية كان قد خرج هو الآخر من مدرسة تأهيل الضباط؛ وبين الحكايات والثرثرة وقصص مغامراتهم الشجاعة الخيالية وبخاصة القصص الفكاهية، مرت الساعات سريعا دون أن يلحظوا ذلك بنفس سرعة مرور المناظر الطبيعية خارج نوافذ المقصورة. يكفي القول بأن ركاب القطار الآخرين قد ألقوا السمع شيئا فشيئا إلى قصصهم في انبهار شديد وبين الحين والآخر يتعالى صوت ضحكاتهم على أصوات حكايات الزميلين. وحتى نضرب مثلا على تلك الحكايات يكفينا أن نشير إلى واحدة ارتجلها زميل دراسته أو ربما سرقها ونسبها إلى نفسه.
يحكى أن نقل الموتى في فرنسا عن طريق السكة الحديد يكلف الكثير من النفقات، الأمر الذي دفع أخوان ينتميان إلى عائلة تنحدر من أصول نبيلة بعد أن تدهورت بهم الحال إلى التفكير في نقل أخوهما الثالث، الذي وافته المنية من مدينة ليون إلى باريس، بأن يلبسوه حلته كاملة ويحملوه على عربة إلى محطة القطار، ومن ثم يصحبوه وقد أمسك أحدهما بذراعه والآخر أمسك بذراعه الثانية وحملوه وأوصلوه إلى مقصورة خالية من الركاب، ومن ثم أجلسوه معتدلا في مكان في زاويتها وقد وضعوا على رأسه قبعة تخفى عينيه حتى يبدو للناظرين وكأنه نائم. ولكيلا يثيروا الشك في النفوس جلسوا في مقصورة بعيدة. مضى بعض الوقت حتى صعد إلى مقصورة المتوفى راكبٌ آخر وجلس فيها. ومن باب العلم بالشيء كان الوقت ليلا حينئذ ونصف ركاب القطار نيام، لذا لم يكن نوم المتوفى بعمق أمرا مثيرا للدهشة إنما كانت لحظة مناسبة ليغط هو الآخر في نوم عميق. ولكن في لحظة أخرى غير جيدة استيقظ الراكب وأصابه الفزع حين رأى أن رفيقه المزعج قليلاً حتى ذلك الحين قد سقط مغشيًا عليه على أرضية القطار وأنه يتحرك فقط بفعل اهتزاز القطار. اندفع بحذر نحو الشخص البائس، وهزه ورفعه وأخذ يوجه له الأسئلة حتى أدرك في النهاية أنه ميت.
- الرجل ميت، ميت! ودار بخلده وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره، والآن الله أعلم كم المتاعب التي سأواجهها، هذا إن لم يتهموني أيضًا بقتل الرجل.
وعليه، فقد قرر الراكب أن يحمل الرجل المتوفى ويلقي به من نافذة القطار ومعه قبعته وعصاه وكل متعلقاته.
ووصل القطار إلى باريس، فذهب أخويه إلى المقصورة ليستكملا اللعبة التي ابتدعاها في محطه ليون: فيأخذا جثمان أخيهما الغالي ويهبطا به من القطار ويحملانه على عربة إلى مقابر العائلة.
كيف هذا، ماذا حدث، بحثا عنه هنا، وبحثا هناك، ولكن أخاهما غير موجود في المقصورة. ولما أصابهما اليأس توجها بالسؤال للراكب الذي يقوم بإنزال حقائبه ويبدو من هيئته أنه رجل طيب:
- من فضلك، يا سيدي، ألم تر مسافرًا كان ينام هنا في المقصورة؟
–نعم، نعم– فأجابهما الآخر بلطف شديد. – لقد رأيته. لقد نزل في المحطة الأخرى.
وصل أيضًا بنيامين ورفيقه إلى محطة البلدة الصغيرة التي تقيم الدوقة فيها، وهبطا من القطار معًا.
نزل الاثنان معًا لأنه خلال الجزء الأخير من رحلة القطار بقيا وحدهما في المقصورة وقد أفصح بنيامين لصديقه عن الهدف الخفي وراء زيارته للجدة، ألا وهو أنه على يقين من عثوره أخيرًا على الخطيبة المثالية.
–على الرغم من أن جدتي تحب الشباب إلا أنها امرأة صارمة جدًا ولن تسمح لي بالبقاء ولو للحظة واحدة مع الفتاة. لذا عليك أن ترافقني، وتأكد أنك ستحصل على استضافة ملكية. وستقوم أنت بالتودد إلى جدتي، وهكذا أستطيع أنا القيام بنزهة قصيرة مع الفتاة في الحديقة.
–يا لك من ذكي! أساعدك على مقابلة الفتاة وأضيف سنواتي العشرين إلى سنوات جدتك الثمانين فتصبح مدة قرن من الزمان إنك حقا ذكي!
وإذ اتسم الشابان بطيبة القلب وحسن الخلق، فقد اتفقا على التعاون على ذلك وهبطا معًا من القطار.
كانت الليلة دافئة وهادئة. ونجوم كبيرة تضيء السماء المعتمة بأضواء خافتة تميل إلى اللون الأخضر، وسار الشابان لمسافة قصيرة في الهواء الطلق يسترشدان بالكاد بضوء النجوم الساطعة. كان ما تبقى من الطريق يتجه صعودًا بعض الشيء وكان مضاءً إلى حد ما بفعل الأضواء المنبعثة من الأكواخ والقش المشتعل في أحد الحقول. كانت فيلا الدوقة هناك على بعد خطوتين، تظهر بيضاء اللون وسط الخلفية السوداء المضاءة بالنجوم لأشجار الحديقة. ظهر انعكاس خيال الشابين على سور الفيلا وبدت رائحة الورود العطرة وكأنها تضيء الهواء بين الحين والحين.
–إن جدتي لديها شغف بالورد– يقول بنيامين مفسرًا ذلك بصوت لم يعد يشبه صوته، صوت لين، موسيقى، اصطبغ هو الآخر بعطر الزهور وانعكاس ضوء النجوم –إنها تجلب نباتات الزهور من جميع أنحاء العالم، حتى من بلاد فارس، والحديقة، والمنزل، والشرفات مليئة دائمًا بالزهور.
–هي أكثر رائحة أحبها– قال الآخر في جدية ووقار. –عندما أشم رائحة وردة ينتابني شعور غامض لا أجد له تفسير، وكأني مخدر؛ يعيد إلى ذاكرتي حياة سابقة، حياة رائعة الجمال.
في غضون ذلك وصل الشابان إلى فيلا الدوقة، وبدا لهما خيال امرأة، تتشح بالسواد، تلف رأسها بمنديل أسود وتجلس على أحد جانبي الطريق، ساكنة بلا حراك وتتطلع بنظرها نحو الوادي. وعلى الجانب الآخر من الطريق تظهر الفيلا الصغيرة وقد أطبق عليها الصمت، باستثناء بعض النوافذ في الطابق الأخير حيث ينام الخدم كان ينبعث منها ضوء خافت: كان يبدو وكأن الجميع قد رحلوا بالفعل، ولكن عندما اقترب الصديقان من البوابة أصابت الدهشة بنيامين حين وجدها مغلقة جزئيًا. ولأنه على دراية بالمكان فقد تقدم نحو المدخل ورأى شرفة الطابق الأول التي تخفيها الأشجار ونوافذها الزجاجية مفتوحة والأنوار مضاءة.
وبدت هناك أيضًا، بين أكاليل الزهور المتسلقة حول أعمدة الرواق السفلى، هيئة امرأة نحيلة بيضاء تجلس بجوار الدرابزين، وكانت ساكنة في سحر الليل.
مال بينيامين على صديقه وهمس في أذنه –إنها هي، يجب أن تكون هي!
–هذه هي الغرفة التي تخصصها جدتي عادة للضيوف. وفى مرات كثيرة تسلقت من الرواق إلى الشرفة لأدخل حجرة أمي وأفاجأها.
–لماذا لا تفعلها مرة أخرى؟ ربما هي في انتظارك– قال الآخر، بين الجد والسخرية.
وفي غضون لحظة بدأ قلب بنيامين يخفق كقلب الأمير الذي يريد أن يختطف السجينة الجميلة من الغول. استيقظت بداخل عروقه الشابة الغرائز القديمة لحيوان متسلق، ودبت فيه روح المغامرة التي تشكل الجزء الأكثر حيوية في شخصيته، وإرث من أجداده الإسبانيين، تملكت منه ودفعته كما لو كان ثملا، في حالة سكر.
فقد لمست لهجة صديقه الساخرة الخفيفة مشاعره: ربما هو يبحث في جوهر الأمر عن المغامرة ليقدم دليل براعته وشجاعته، ولكنه أيضًا نوع من التشبث بالحلم الذي يريد أن يحصل عليه، وبما أن الفرصة قد حانت والحلم لا يتحقق إلا بهذه الطريقة، مثلما يقنص الصيادون الشباب النسر وهو على قمة الجرف.
ودون أن ينبس ببنت شفة ألقى بقبعته، واندفع في سرعة وصمت نحو الرواق وحينما وصل إليه احتضن العمود، بعد أن مال بعض الشيء باتجاه الأرض، ووضع جسده عليه، وتسلق، وتسلق، حتى بلغ قمته كالفائز في مسابقة تسلق شجرة الكوكينى الزلقة؛ وقفز مباشرة على الشرفة. وتعالى صوت صرخة كسرت الصمت النقي لليل.
–جدتي اعذريني. هل أفزعتك؟ أردت أن أفاجئك.
ورغم الفزع الذي أصاب الجدة العجوز، إلا أنها ابتسمت له ابتسامة عريضة كشفت عن أسنانها المزيفة، وبينما تركته يقبل اليد اليسرى المزينة بالخواتم، أخذت تضربه على رأسه بيدها اليمنى ضربات ليست بالخفيفة إلى حد ما.
استيقظ جميع من في الفيلا في غضون برهة. حتى في الحديقة كانت هناك أصوات حديث وضحكات، وقال بنيامين إنه قد ترك صديقه بالأسفل. في ذلك الحين شرحت له الدوقة في نبرة لا تخلو من المكر أن الضيفة كانت بالأسفل للتجول في الشارع بحثًا عن النسيم العليل وعند رؤيتها الرجلين يدخلان من البوابة التي تركتها مواربة، لا شك في أنها تتبعتهما، ووراء كل التبريرات لصديقه الذي ظل في الشارع ضحكا معًا على تهور بنيامين.
لكن بنيامين لم ينزعج، بل على العكس تماما جال بخاطره أن النساء اللواتي يتنزهن بمفردهن ليلا في الشارع هو يعتقد أنه لا يهواهن، فوقف انتباه وأدى التحية العسكرية.
وقال: كل التجارب التي نمر بها في الحياة مفيدة. ومن يضحك أخيرًا يضحك كثيرًا.
|