القاهرة 05 ديسمبر 2023 الساعة 12:58 م
قصة: جراتسيا ديليدا - إيطاليا
ترجمة: عبد الرحمن إبراهيم
في الخريف الماضي، أقمنا في بيت ريفي يمتلكه فلاحون أغنياء، يقع بين منطقة أرض قاحلة وبحر إقليم رومانيا الساحر.
كان المنزل من الخارج يشبه الفيلا، له درج أمام الباب ومكان للاستراحة وشُرفة وممرٌ تزينه على الجانبين أشجار النيِّر ويتجه مباشرةً إلي البوابة المحاطة باثنتين من أشجار الحُور دائمتي التبسم لكل الأشياء التي كانت تتراءى لهما، ابتسامتهما طفولية بريئة. أما في الداخل، فكان المنزل يحتفظ بحالته العتيقة، إِذ امتزجت بساطته بالتعقيد نتيجةً للذوق الرديء ابتداءً من الأثاث، مرورًا باللوحات والستائر، ووصولًا إلى الأبواب ودرابزين السُلم.
كانت صاحبة المنزل - التي تسكن الدور الأرضي - تشبه المنزل تمامًا، فبينما ترتدي ملابس أنيقة، تعمل في الوقت ذاته مع الفلاح يدا بيد، شعرها شديد السواد وأسنانها ناصعة البياض، أما عيناها – اللتان لا يجرؤ أحد على الطعن بهما – فكانتا شديدتي السواد وواسعتين وناضرتين. كانت السيدة تبدو –في المجمل– شابة وذكية.
ذات يوم قالت السيدة "قد أكون ذكية لكني لم أعد شابة". قالت لنا ذلك وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة كشفت عن لثتها وأسنانها التي تشبه بقدرٍ ما أسنان الحيوانات. بعد ذلك رفعت يدها وأخذت في فرد أصابعها واحدًا تلو الآخر في إشارةٍ إلي عُمرِها، لم يُفاجئنا رفعها للإصبع الخامس إشارةً إلي سِن الخمسين؛ لكنها رفعت اليد الأخرى وفردت الإبهام. فقلنا لها "كيف، هل أنتِ حقًا في الستين من عمرك يا سيدة بالمينا؟"؛ ثمَّ رفعت السبابة ومِن بعدها الإصبع الوسطي. فقلنا "ثمانون عامًا؟" فردت "لا، سبعة وسبعون سنة وبضعة أشهر". قلنا لها "لا بد أنك تمزحين يا سيدة بالمينا".
فردت "ليتني أمزح، هكذا تمر السنون. أما السر وراء مظهري هذا فهو أنني عِشت دائمًا هنا في بيتي وفي أرضي تمامًا كسيدات الإنجيل، طبقًا لقانون الرب، دائمًا ما أعمل اليوم من أجل الغد أتوقع حدوث كل شيء. لقد توقعت دائمًا ما كان ينبغي أن يحدث، وبذلت كل ما في وسعي من أجل دفع المصائب بعيدا، وإِن وقعت تلك المصائب رغم ذلك كنت أحسن استقبالها كالضيوف: كريهون ولكنهم دائمًا ضيوف. هكذا لم أُعانِ كثيرًا، وَإِن عانيت – لأن قلبي ليس حجرًا بطبيعة الحال– كنت أقول لنفسي: "يا بالمينا، هنا يتطلب الأمر أن تُؤمني بأنك امرأةً شُجاعة وأن تتفوقي على نفسك، وها أنا ذا قد نجحت". أرغموني على الزواج – حين كنت في السادسة عشرة من عمري – من رجل عجوز؛ لم يعجبني لكنه كان غنيًا. قلت لنفسي: "يا بالمينا، أنتي في السادسة عشرة من عمرك بينما هو في الثمانية والأربعين، سيموت على أقل تقدير قبلك بثلاثين عاما؛ حينها ستستطيعين أن تتزوجي ثانيةً من شخص تحبينه ويكون في نفس عمرك وربما أصغر ببضع سنوات. توفي زوجي عجوزًا، بل – بفضلٍ من الله – كان معمرًا حيث توفي في السادسة والتسعين من عمره. ستفهمين يا سيدتي أنني لم أكن في عمرٍ يسمح لي بالزواج حينها، ثم أنه من ذا الذي كان سيفكر حينها في زواجٍ ثانٍ؟ حَزِنتُ على زوجي لأنني حقيقةً اعتدت على حبه بمرور الأعوام.
سألتها: "هل رُزِقتي بأبناء؟".
ردت: "أنجبت اثنين: ذكرين، فأنا لا أحب إنجاب الإناث لأن مستقبلهنَّ مجهول، فقد يتم إغوائهنَّ أو يُتركنَ من الخطيب أو تُساء مُعاملتهنَّ من الزوج. أنجبت ذكرين وأرضعتهما بنفسي لأن الأبناء لا تَرِقُ قلوبهم إن لم يشربوا حليب الأم. أَحسَنتُ تربيتهما ولم أفارقهما للحظة وكأنهما قطعة من جسدي. وجهت إليهما كل تفكيري ورعايتي. أحدهما تعلم، بينما اهتم الآخر– بناءً على رغبة الأسرة – بشؤون المنزل والأرض. كان فتىً جميلًا وقويًا ورقيق القلب. لكنه التقى بامرأة أغوته وأنجبت منه ولدًا وطلبت منه أن يتزوجها وأن تصبح هي سيدة المنزل. فطردتُها شر طردة، ومنذ ذلك الحين لم تطأ هذه الأقدام المتسخة أرض منزلي. لكن ابني لم يتركها وذات يوم أسود رحل معها إليدى الخارج بعد أن تزوجها. لا أعرف عنه أي شيء منذ وقت طويل ولم يعد حتى للمطالبة بميراث أبيه. عرفت فقط أنه كَوَّن ثروة، وهذا ما يواسيني.
سألتها: "وماذا عن الآخر؟".
أصابت عتمةٌ الصفاءَ الجلي لوجهها الصلب، عتمة من الغضب أكثر منها من الألم وكأنها تحتج داخلها ضد ذاك الخداع الخر غير المتوقع من القَدَر.
أجابت: "لقد مات في الحرب."
وربما من أجل إسكات الأصوات المتعالية بداخلها وكذلك كلمات المواساة غير المجدية التي قد تقال لها، تابعت حديثها بسرعة: "مات شجاعًا وهذا هو ما أقَرَّه الدوق بنفسه في خطاب كتبه لي شخصيًا قال فيه: "يمكنكِ أن تشعري بالفخر لأنك أم البطل"، وهذا ما أشعر به بالفعل. والآن ما عاد لي سوي أن أرحل أنا الأخرى، وفي العالم الآخر لنا لقاء، وهذا حتمًا سيحدث. أريد فقط أن أموت مطمئنة في بيتي وعلي سريري. أنا لن أموت في حادثة على الطريق لأنني لا أخرج من المنزل مطلقًا. سوف أشعر بالحزن فقط إن طَالَ علي المرض، فأنا لا أريد وجود أحد حولي. كما أن سريري كبير وقد يكون من الصعب على الشخص الذي قد يساعدني أن يقلبني مرارًا وتكرارًا عليه، لذا فكرت في أن أقسمه إلى نصفين، فهو سرير كبير؛ وهذا أيضًا سيحزنني فأنا أنام عليه منذ ستين عامًا ولا أريد الموت على سرير غيره. سوف أنام في الناحية التي مات فيها زوجي. أريد أن أفعل ذلك سريعًا، اليوم قبل الغد.
سُمِعَ في اليوم نفسه – في الغرف التي تسكنها السيدة بالمينا – صوت حركة صاخبة ذهابًا وإيَابًا و تحريك قطع أثاث من أماكنها وعَجَلات تنتقل عبر الأرضيات. كانت تفعل كل شيء بنفسها، وفي وقت متأخر من النهار شُوهِدَت وهي تعمل أيضًا مع الفلاح بين نباتات أرضها الرائعة الممتلئة بالثمار، وبدَت عليها السكينة، ولون بشرتها كان يميل إلى الحُمرة وكأنه لم يعد هناك شىء يقلقها علي المستقبل بعد تلك اللحظة.
لكن في الأيام التالية انزعجت بشدة لشعورها بالألم، خصوصًا وأنه ألم من نوع غريب: اضطرابُ في المعدة ورغبة مستمرة في القيء كالنساء في بداية فترة الحمل.
فطلبت السيدة استدعاء الطبيب الذي شخص حالتها بفتاق ناتج عن المجهود المبذول أثناء نقل السرير. كان ذلك شيئًا بسيطًا، لكن يجب إجراء العملية من أجل تجنُّب عواقب وخيمة.
قالت وهى مطمئنة: "فلنُجري العملية" لكنها انزعجت مرة أخرى حين قال لها الطبيب أنه يجب إجراء العملية فى عيادة.
قال لها: "لن تموتي، اطمئني؛ بل إذا أردت أن تعيشي لفترة أطول وأن تموتي على سريرك عليك أن تقرري الآن؛ الأمر ليس خطيرًا صدقيني".
ومن ستصدق إن لم تصدقه هو إذن؟ فقد كان طبيبها محل ثقتها. وعَرَض الطبيب عليها أن يصطحبها إلي العيادة وأن يوصي عليها الجراح الشهير الذي سيجري لها العملية.
فوافقت في الحال؛ وسلمت مفاتيح المنزل إلينا وسلمت الأرض للمزارع الذي يعمل عندها.
وقالت: "سوف أذهب وأنا مرتاحة البال لأنني حسبت حساب كل شيء. إلي لقاء قريب. "
وفي اليوم التالي لإجراء العملية وافتها المنية في إحدي عيادات بولونيا.
|