القاهرة 23 نوفمبر 2023 الساعة 05:43 م
بقلم: أحمد محمد صلاح
وضع أفلاطون اسم الأكاديمية للمدرسة التي أنشاها في أثينا، والتي تعد من أشهر المدارس الفلسفية في التاريخ القديم، والتي أنشأت في القرن الرابع قبل الميلاد وظلت تدرس الفلسفة حتى القرن السادس الميلادي، حتى أغلق الامبراطور جستنيان أبوابها، ومع ذلك لم تغلق كلية، وإنما هاجر فلاسفتها وأساتذتها إلى فارس، ومن هناك استكملت المدرسة تعاليمها تحت رعاية كسرى أنوشروان.
استقت كافة اللغات كلمة أو مصطلح "الأكاديمية" من المصطلح الذي أطلقه أفلاطون على مدرسته، فهي المكان الذي تدرس فيه العلوم والفنون والآداب، وتطلق صفة أكاديمي -حتي يومنا هذا- علي الشخص المتعمق في مجاله وتتسم أعماله بالجدة والأصالة.
كان سبب إنشاء الأكاديمية الأفلاطونية هو الرد علي السفسطائيين، ويقول أحمد فؤاد الأهواني في كتابه "المدارس الفلسفية": إن المدارس لم تكن تظهر إلَّا لحاجة ماسة، فهي تُخرج الحُكَّام والساسة، إذ كانت مشكلة الحكم هي الشغل الشاغل للأذهان، أو أنها تُعِدُّ الطلَّاب لشغل وظائف الكهنة وخدمة المعابد، وذلك بفهم أسرار الدين ومعرفة مراميه ووظيفته في خدمة المجتمع، أو أنها تُعِدُّ الطلَّاب لأمور الدنيا من معرفة بالحساب والتجارة والاقتصاد وغير ذلك، لكن مدارس السفسطائيين كانت مختلفةً في وظيفتها عن هذه الاتجاهات الثلاثة، ولم تكن تُعلِّم الحقَّ بمقدار ما كانت تُعلِّم التغلُّب على الخصوم. ومن أجل ذلك نهض أفلاطون ينشئ الأكاديمية يُعارض بها «تعليم» السفسطائيين."
كان أفلاطون تلميذا لسقراط، ولكن بعد إعدام الأخير حزن عليه أفلاطون بشدة، وسخط علي الديمقراطية التي كانت سببا في إعدامه -وهو ما سنوضحه فيما بعد عندما نتناول سيرة سقراط- وطاف أفلاطون بعدد من البلاد ومنها مصر، وهناك استقي من النظم المصرية الصرامة في التعليم، فنقل الكثير من العلوم واطلع علي الفلسفات كما فعل فيثاغورس من قبله، وأعجب بنظام المدارس المصرية في التعليم فكان إنشاء الأكاديمية.
طاف أفلاطون بعدد من المدن مثل "قورينا" ليلتقي بتيودوروس الرياضي، ويتعلم منه أو يأخذ منه العديد من علوم الرياضة، ثم توجَّه بعد ذلك إلى تارنتوم بجنوب إيطاليا وكانت معقل الفيثاغوريين، حيث التقى بزعيم المدرسة أرخيتاس الرياضي المشهور، وقد جمع أرخيتاس بين العلم الرياضي والفلسفة والسياسة، كما كان قائدًا مظفَّرًا، وقد انتخبه أهل مدينته حاكمًا عليهم، فكان بذلك الحاكم الفيلسوف الذي لعبت صورته في خيال أفلاطون، ورأى في هذه الصورة النموذج لرئيس المدينة الفاضلة، ولم يلبث أفلاطون أن اتجه إلى صقلية، واتصل في سراقوسة بديون شقيق زوجة ديونيسوس طاغية سراقوسة، وغضب ديونيسوس على أفلاطون بسبب انتقاد الفيلسوف لسياسته، فأمر به أن يُباع في أسواق العبيد، وبيع فعلًا في إيجينا بثلاثين ميناي، وافتداه تلاميذه وفكُّوا أسره، وعاد إلى أثينا سنة 387 قبل الميلاد وقد بلغ الأربعين من العمر، فبادر بإنشاء الأكاديمية.
كان اختيار أفلاطون للمكان الذي سينشئ فيه أكاديميته به نظرة فلسفية أو لنقل جمالية إلى حد كبير، فقد اختار مكانا خارج أسوار أثينا، عبارة عن بستان كان ملكا للبطل "أكاديموس" ومنه اشتق اسم مدرسته "الأكاديمية" والتي ظلت كما ذكرنا اسما للمكان الذي تدرس به العلوم المختلفة، وكان يحف بالبستان تماثيل لعظماء اليونان، وكذلك كان يمتاز البستان بالنضارة وصفاء الماء، وقد وصفه أفلاطون في افتتاح محاورة «فيدروس»، حيث ذهب سقراط وتلميذه «فيدروس» -وكلاهما حافي القدمَين- يخوضان في ماء الجدول، ثم جلسا على الأرض في ظل شجرة باسقة، وإلى جانب ذلك كان المكان مقدسًا، وُهب للإلهة «أثينا»، وأُقيم فيه معبد لتمجيدها تُحيط به اشجار الزيتون الذي كان يُمنح زيته للفائزين في أعياد «الباناثيناي» أكبر أعياد أثينا، فضلًا عن ملعب رياضي أنشأه قائد أثينا المُسمَّى قيمون في أوائل القرن الخامس.
ليس لدينا مخطط بالتفصيلات المعمارية لأكاديمية أفلاطون، ولكن "الأهواني" يرجح أنها كانت تشمل معبدًا لربَّات الفنون، وحُجرات للأساتذة والطلبة، وقاعات للاجتماعات، والاستماع إلى المحاضرات، وتناول الطعام مشتركين معًا، وقد جرت العادة في أيام الصيف أن يستمع الطلبة للمحاضرات في «مماشي» البستان، أو في ظل الرواق، وهذه العادة مع أنها كانت عامةً في معظم المدارس الفلسفية في ذلك الحين، نعني أن يتلقَّى الطلبة الدرس وهم يمشون حول الأستاذ، إلَّا أن المدرسة التي اختصَّت باسم المشَّائين هي مدرسة أرسطو دون غيرها من المدارس -وهو ما سنتناوله تفصيلا فيما بعد-.
وكانت المدرسة أشبه بفرقة دينية، فيها المعبد الموهوب لربَّات الفنون، والذي كان الطلبة يُقدِّمون إليها الأضحية في أوقات معلومة، وبخاصة لهرمس إله الحكمة، وكانت المعيشة بين أعضاء المدرسة -رئيسًا وطلبة- مشتركةً في الملبس والمأكل والنوم، وبعض لوازم اختصت بها المدرسة مثل طريقة تصفيف الشعر، واتخاذ قلنسوات فوق الرأس، والاتكاء على العصا.
كان أفلاطون صاحب المدرسة، ومالك الأرض والبناء، وهو الرئيس، وقد وضع للمدرسة نظامًا للرئاسة بعد وفاته، هو نظام التعيين بالوصية، غير أن الرئاسة أصبحت تتم فيما بعد بالانتخاب السري من جميع أعضاء المدرسة.