القاهرة 22 اكتوبر 2023 الساعة 01:51 م
بقلم: أمل زيادة
عزيزي عمر خورشيد،،
مر أسبوع آخر من أجمل شهور حياتنا في شهر أكتوبر رمز النصر الوحيد على طول الخط، رغم ما به من حزن وخسارة وفظائع.
لا أخفي عنك أني ترددت كثيرًا في الكتابة هذا الأسبوع، ربما لفظاعة ما يجري على أرض الواقع، ربما لأن مخيلتنا ككتاب وقفت عاجزة أمام بشاعة الواقع والحقيقة!
كنت أظن أن الخيال لا حدود له، لكن الحياة فاجأتني، ربما فاجأتنا جميعا بأن الحقيقة فاقته بمراحل، ليظل الخيال مهما كانت بشاعته أو شره المطلق ضئيلا أمام الواقع.
يقولون إن من يعيش طويلا يري كثيرا.. لا أخفي عنك أني تمنيت ألا أعيش حتى لا أرى ما حدث أو يحدث أو سيحدث مستقبلا!
واصل العدو الغاشم اعتداءاته على إخوتنا المحاصرين داخل قطاع غزة، بعد أن أتى على مفاصل القطاع بمن فيه من أرواح تحاول بصمود التمسك بأرضها وتاريخها..
عندما كنت أكتب عن الحرب وبشاعتها وخسة المحتل في أثناء نضالنا كمصريين، كنت أطالع الصور الأرشيفية المتاحة،أو أسمع قصصًا تروى على لسان الأباء والأجداد.. أذكر أن أمي أخبرتني أنه لم يكن هناك بيت يخلو من شهيد، وأن الحزن محفور في الوجوه خلال تلك الأيام رغم الفرحة بالنصر والعبور.
أخبرتني أن أيام الحروب ثقيلة، تمر ببطء، كلها خوف وترقب، وأن من هم بعيدين عن مرمي النيران ليسوا بأمان، فأنت في مواجهة مع عدو شرس همجي، لا يتقن فن تلفيق الحجج واختلاق الأكاذيب وترويجها، عدو له تاريخ دموي، لم يصمد أمام شجاعة وصمود وإصرار المصريين.
كنت أنصت لما تحكيه باهتمام، لكن باطمئنان أن هذه الحقبة بتوترها وخوفها بعيدة عنا، عني وعمن أحب.. حتى حدث الانقلاب التاريخي في 7 أكتوبر، وما تبعه من هجمات انتقامية من العدو الغاشم بحق الأطفال والضعفاء من النساء والشيوخ.
كتبت رواية وثقت بها جرائم المحتل بحق القضية الفلسطينية من جميع الجوانب حتى من جانب المغتصب.
لم يخطر على بالي قط أنه سيأتي يوم أعاصر فيه كل هذا الحزن، كل هذا الألم، كل هذا الإحساس بالعجز والقهر.
كل يوم نودع صديقا كاتبا أو شاعرا أو مراسلاً، نودع شركاءنا من مبدعي الحَرف.
أعلم أن للحروب ثمن وضحايا، لكن هذا يحدث عندما تكون المواجهة بين الجيوش وبعضها، وليس جيش في مواجهة مدنيين عزل ضعفاء..
تطالعنا وسائل التواصل الاجتماعي، بصور مؤلمة، قاتلة، كل صورة قصة رعب بحد ذاتها، تثبت لنا أن الحياة لم ولن تكون عادلة يومًا.
كل الصور التي تداولها الجميع توحي بقصص قد تكون شاهدة على قلة حيلتنا، وتخاذل شعوب العالم أجمع.
حاولت كتابة قصتين من واقع الصور، وضعت نفسي محل هؤلاء المكلومين الضعفاء، تمكنت من الكتابة وترجمة ما كتبت إلى الإنجليزية، عسى أن تكون يوما شاهدة على بشاعة الواقع، إلا أنه في أحيان كثيرة لم أستطع!
أصيب قلمي بالشلل.. بالجفاف، كيف له أن يكتب وسط دموع الخزي والعار؟!
كيف أكتب؟! من أين لي بالقوة للبحث عن معان تعبر عن معاناة طفل ترتعد فرائصه من الخوف جراء القصف؟!
أبكاني هذا الطفل المذعور.. وددت أن أحتضنه، عسى أن أبثه الاطمئنان.. أن أغمره بالحب، وأصنع درعًا واقيًا يعزله عن الواقع القميء.
بحثت عن وسيلة للوصول إليه حتى لا يضيع ذعره وسط فوضى حياتنا بآلامها، حتى وجدت مقطعا آخر يبدو فيه متماسكًا برفقة والديه.. شعرت بالاطمئنان نوعًا ما.
هالني قصة لم أتوقع أن أصادفها يومًا، لكني وجدتها هناك في فلسطين.. تبادل الأشقاء لأبنائهم!
تبادل مع أخيه الأطفال، أعطى أخيه طفلين، وأخذ من أخيه طفلين، حتى إذا قصف منزل أحدهم عاش اسمهم وسط أبنائهم.. إنهم يقاومون بطرق لا تخطر على بال بشر!
إنهم يقاومون بطرق فاقت أي توقع وخيال لأمهر الرواة وصناع الدراما..
وضعت نفسي كالمعتاد مكان الأب، ومكان الأطفال، هل تراه يشعر بالحزن والتقصير؟!
كونه تخلى عن جزء منه، أكان الأجدر به احتضان الجميع وقت الفزع والخطر؟! هل كان قراره صائب أم تراه قرارًا خاطئا؟!
هل الأفضل أن نموت جميعًا؟ ونترك كل شيء للقدر، ربما نجا من نجا، بل ربما نجونا جميعا!
بماذا يشعر أبناء الذين بادلتهم مع أبناء عمومتهم؟! هل يشعرون بالخوف؟ هل يظنون أني أحبهم أقل من أخوتهم؟! هل تخطأت لأني فرقت بينهم؟ هل ما فعلته هو الأفضل؟! هل ينجو حقًا من يكون بمأمن عن القصف أم أن من يرتقي شهيدًا هو الناجي الحقيقي بيننا؟!
أسئلة كثيرة تراودني عندما أرى آلام الآخرين.. لا أظنني أبالغ في تفاعلي وتعاطفي معهم.. أظننا جميعا توقفت بنا عجلة الزمن عند السابع من أكتوبر، فقد كل شيء لونه وطعمه ورائحته أمام كل هذا الدمار ورائحة الموت..
أمام رؤيتنا لآلام أخوتنا أمام وحشية المحتل الغاصب، الذي ضرب بكل القوانين عرض الحائط بعناد وغطرسة كالمعتاد..
إذا أردت التحدث عما تبقى من ذكريات وصور لهؤلاء، ما وجدت حبرًا يكفي لطباعة هذه القصص الملحمية..
كل ما أنا موقنة به، أن حياتنا على ظهر هذا الكوكب أصبحت مجرد احتمال..
عزيزي عمر خورشيد،،
إلى اللقاء.
|