القاهرة 17 اكتوبر 2023 الساعة 11:51 ص
بقلم: د. محمد السيد إسماعيل
الرواية – بصورة عامة – فن موضوعي، وهذا يعني أنها تتجاوز "الذات" الفردية وتتقاطع مع معطيات الواقع الراهن، ومعطيات التاريخ سواء أكان قريبًا أو بعيدًا ، ورواية " طفل الثامنة والتسعين، نصراني "لهاني الصلوي" تتكون من جزأين ويبلغ عدد صفحاتها ست مئة واثنتين وعشرين صفحة، وهذا ما أعطاها القدرة على استعراض مساحات واسعة من التاريخ عن طريق تقنية الاسترجاع ناهيك عن الواقع الذي تصور قضاياه وصراعاته.
وتبدأ الرواية بمقتبس منسوب إلى "لاوتسو" في كتابه "الطريق والفضيلة "، وهو مقتبس يفرق بين البطل الحقيقي والمدعي حين يقول:
"هذا الذي ترونه يمر من تحت أقواس النصر، والذي تهتف له الجماهير، ليس هو البطل، أنجز البطل عمله وذهب تحت جنح الظلام إلى النهر، ومن هناك أخذ قاربًا وعبر إلى الضفة الأخرى، فاختفى في الغابة ".
ويمكنني وصف هذه الرواية بأنها رواية ملحمية، ولا يعود ذلك إلى عدد صفحاتها الذي أشرنا إليه، بل إلى طريقة تأليفها، فهي تتبع أسلوب "الرواية داخل الرواية"، وهو ما استخدمه بريخت في "دائرة الطباشير القوقازية" فيما يعرف بالمسرح داخل المسرح ، وذلك بغرض هدم الحائط الرابع الوهمي الذي يفصل بين العرض المسرحي والجمهور، حيث نجد أنفسنا أمام عنوان ثان هو "أحمد النصراني" ومؤلف آخر هو" باسم غانم عبد القيوم"، وهي الرواية التي سوف يعمل عليها المؤلف الحقيقي الذي يأخذ دور السارد الرئيسي من خلال ضمير المتكلم حين يقول – مثلا- تحت عنوان "لا مسارات – لا بد منه وووو" :
"أنهي كتابة عمل مهم عن مناضل أممي ذي أصول يمنية، تعقبه عقدين فأمسك إلى حد ما بشخصيته في أدبيات متنوعة تحت أسماء مستعارة عدة.. زاهد في المناصب السياسية والشرفيات والرتب".
وكأن هذا المناضل الأممي الزاهد في المناصب السياسية صورة أخرى من البطل الحقيقي الذي أشار إليه "لاوتسو" الذي أخذ قاربه وعبر الضفة الأخرى، واختفى في الغابة.
هذه المغامرة الكتابية والبحثية التي قام بها هذا المناضل الأممي – عمر عيسى طربوش – وحررها باسم غانم عبد القيوم تأتي – أخيرًاا- إلى المؤلف الثاني الذي يصفها بأنها "ستتغير لأجلها وبها ثوابت التاريخ العربي الحديث ، وعلى وجه الخصوص تاريخ الحزب الشيوعي في المنطقة العربية وعلاقته بالمحيط العالمي الشيوعي والرأسمالي" ، ولهذا لم يكن غريبا أن يجعل عمر عيسى طربوش من عبارة "رواية تقدمية مختصرة" عنوانا لهذه الرواية وهي عمله السردي الوحيد الذي أوصله للمؤلف.
نحن إذن أمام رواية تكتب على أعيننا، نتابع خطوات تأليفها والمشاركين فيها، واللافت أن أحمد النصراني هذا يحمل أكثر من اسم منها "سرور البيتيان" وهو العنوان الأول للرواية ، ومنها "طاهر الشبلي " تارة أخرى والذي تم إلحاقه بأحمد في بعض الأدبيات.
ثم يفضي المناضل الأممي إلى الكاتب باسم "نبيل مسعود" ويصفه بأنه "نبي" لأنه – كما يقول – "حاضرنا المتسرب على الدوام والنازف في النزف" ثم يحكي قصة تعرفه عليه بقوله:
"تعرفت على نبيل في سجن الفتح حين عودتي من روسيا... يعيش المسكين محبسه الثاني، اعتنقتنا زنزانتان متجاورتان، لم يعذبوني، أما هو فتملأ صرخاته الفناء".
والحقيقة أن السجن يمثل مساحة كبيرة في هذه الرواية ويتردد في الكثير من المواضع .
وإذا كان د. شكري عياد قد وصف الروائي بأنه "نصف عالم اجتماع" فإن الكاتب الروائي هنا يمكن وصفه بأنه "نصف باحث تاريخي" كما يبدو من قوله "شرعت في العمل على نسخة باسيمة – نسبة إلى باسم غانم عبد القيوم – منقحة زودني بها على ملف "وورد" بجانب نسخة ورقية أخرى، أشير إلى مصادر مفيدة وأدون" ويزداد الأمر وضوحا حين يصف عمر عيسى طربوش عمله الروائي بأنه "تاريخ" أو "سرود تاريخية وتوثيقات فنية لحاضرنا وانكساراته ".
وبالإضافة لكونها سرودًا تاريخية فإنها – أيضا – سرود معرفية، حيث نجد إشارات إلى شخصية "شيلوك" اليهودي المرابي الذي رسمه وليم شكبير حين نقرأ هذه السخرية "هل تتمثل شيلوك – شكسبير، إن كنت تتمثله فنعم القدوة والمعلم والمرشد والدليل".
كما نجد استشهادات كثيرة بالشعر – من المهم أن نعرف أن هاني الصلوي شاعر في الأساس – ومما أورده من شعر قول الشاعر "شبيهي فى التغرب والنوى / وطول التنائي عن بني وعن أهلي" وقول آخر "واها لسعدى ثم واها واها / ياليت عيناها لنا وفاها" والتناص المفارق مع قصة يوسف عليه السلام حين يذكر الكاتب أن الذئب قد أكل الإخوة وليس يوسف وذلك في قوله "حين أكلهم الذئب فرت القمصان من على طينهم (يقصد أجسادهم ) ".
ولا يخلو الأمر من الإشارة إلى بعض الأساطير مثل أسطورة "برومثيوس" الذي سرق نار الآلهة ومنحها للبشر حين يقول "يا لبعد نظره ، ألم أدعه برومثيوس" كما تزخر الرواية بآيات من القرآن الكريم خاصة في العناوين مثل قوله تعالى "فأغشيناهم فهم لايبصرون" وقوله تعالى "إنهم فتية آمنوا بربهم ".
كما يضمن جزءًا من أغنية الفنان اليمني محمد مرشد ناجي التي مطلعها "قال أبو ناصر المضني / فتش ورد نيسان في خدود الغواني" وقد نتج عن كل ذلك تمتع الرواية بالأسلوب الشاعري ويتضح ذلك بجلاء في هذا الشاهد:
"يارب كيف أخذت طفلي عبده؟ إنه صغير يارب، صغير جدًا، جدا صغير ياربي، ألا تراه؟ ملامحه غير عتيقة، عيناه طريتان، أنفه ويداه أيضًا، يداه أيضًا يارب رطبتان حد السيولة، كيف أخذته ولما يتجاوز الثامنة والتسعين بعد؟ كيف كيف؟ ألم أقل لكن يا نساء إنه ابن موت" لا أحد غيرك في الجمع يعرف شيئا".
و"عبده" أحد أسماء أحمد النصراني وتتضح شاعرية هذه السطور في هيمنة الأسلوب الإنشائي المتمثل في النداء والاستفهام وكما تتضح في المفارقة بين وصفه بأنه "طفل" ثم وصفه بأنه "لما يتجاوز الثامنة والتسعين بعد" ومن هنا تأتي بطولة اللغة بمعنى أن أبطال الرواية هم صناعة لغوية في الأساس، أو بتعبيرات جيرار جينيت "شخصيات ورقية".
غير أن الكاتب لم يلتزم باللغة العربية الفصحى واستخدم كثيرًا من مفردات اللهجة اليمنية مما اضطره إلى شرحها في الهامش ومن ذلك قوله "كراش كراش وعظام، أيرى بأمه مامسهم" وإن كنت أفضل استخدام الفصحى لتوسيع دائرة الانتشار ولعدم قطع السرد بالهوامش الكثيرة . ولعل العذر الذي يمكن تلمسه للكاتب هو أنه أراد أن يعكس البيئة اليمنية بلهجتها وعاداتها وما يشاع فيها من ألعاب طفولية.
واللافت حقا هو استغلال الكاتب لفضاء الصفحة في طريقة كتابة كلماته فهو يكتب "انحرف إليها" بطريقة رأسية لا أفقية أيحاء بالانحراف وفي الرواية إشارة إلى تطرف اليهود فبعد زواج أحمد (المسلم) من فرحة (اليهودية) يتساءل أبوها في حسرة "كيف لو درى العيلوم بما فعل هذان القردان ؟"
ومن الواضح أن الكاتب يهتم ببناء شخصياته حتى يمكن وصف هذه الرواية بأنها رواية "شخصية" وليس اهتمامه بالمكان إلا لمعرفة أثره على هذه الشخصيات كما أنه يجيد اختيار العنوان الدال على محتوى الفصل.
وفي النهاية نحن أمام عمل ملحمي له العديد من الزوايا التي يصعب ذكرها جميعًا في دراسة واحدة.
|