القاهرة 11 اكتوبر 2023 الساعة 11:47 ص
بقلم: أحمد محمد صلاح
يمتاز القرن السادس قبل الميلاد بالاضطرابات السياسية التي قلبت موازين الحكم في الدول المعروفة حينذاك، وهي فارس، وبابل، وآشور، واليونان، ومصر، حيث اشتدت دولة الفرس في تلك الفترة، وفي أواخر الأسرة الخامسة والعشرين قام بسماتيك بن نخاو الذي سيصبح ملك مصر بطرد الغزاة وحدث نهضة جديدة في الفنون والآداب، ووفد اليونانيون إلى شمال الدلتا وكان لهم حي مخصوص في منف واستفادوا من علوم المصريين وفنونهم في تلك الفترة، كما اشتد ضغط الفرس على آسيا فهاجر أصحاب الفكر غربا، واستقر أكثرهم في جنوب إيطاليا، وبذلك انتقلت الفلسفة من أيونيا إلى الغرب، ومن الفلاسفة الذين هاجروا كان فيثاغورس.
اختلف المؤرخون حول فيثاغورس، فلم يتحدث عنه أفلاطون إلا مرة واحدة، أما أرسطو فقد كتب عنه كتابا ولكنه فُقد، يتحدث فيه عن فيثاغورس وجماعته السرية، وكذلك تحدث عنه عدد من الفلاسفة والمؤرخين مثل زينوفان وهرقليطس وانبادقليس،وغيرهم، وألف أرستكسينوس أحد تلاميذ أرسطو كتابا عن فيثاغورس والفيثاغورية، كما أن هيرودتس قد كتب عنه أيضًا.
وخلاصة ما كتب عنه أنه قد نشا في ساموس وهي جزيرة مواجهه لملطية، وهاجر من موطنه أو نفي في عهد بوليقراطس الطاغية، وفي رواية أخرى أنه هاجر خوفا من غزوات الفرس، فوصل ملطية ليتتلمذ علي يد طاليس، ثم زار فينيقيا، ومنها إلى مصر التي أقام بها اثنين وعشرين عاما يدرس الهندسة والفلك وعقائد المصريين القدماء، ثم وصل إلى بابل بعد أن غزا قمبيز مصر ليدرس الحساب والموسيقى، ثم استقر في كروتون في جنوب إيطاليا وافتتح مدرسته هناك.
ويقول أحمد فؤاد الأهواني في كتابه "المدارس الفلسفية": "أعجَب مدرسة فلسفية هي المدرسة التي أنشأها فيثاغورس في مدينة كروتون بجنوب إيطاليا في القرن السادس قبل الميلاد، فهي عجيبةٌ في تكوينها، وعجيبة في تعاليمها، وعجيبة في أثرها، وأول مظاهر العجب أنها تُسمَّى الفيثاغورية، ولا يقال مدرسة فيثاغورس، والفرق بين التسميتَين كبير، لأن مدرسة فيثاغورس تُنسب إلى شخص صاحبها، وتنقضي بوفاته، أمَّا الفيثاغورية فإنها على الرغم من انتسابها إلى فيثاغورس إلَّا أنها تتجاوز شخصه إلى جماعة الفيثاغوريين، فالمدرسة في حقيقة أمرها تخضع لهيئة من القادة على رأسهم فيثاغورس، وهذا هو السر في أن المدرسة لم تنقرض بموت رئيسها".
وحين افتتح فيثاغورس مدرسته، اجتذبت عددًا كبيرًا من الأتباع، قيل أن عددهم بلغ ما يقرب من عشرة آلاف، وهو عدد ليس ثمرة الإحصاء، ولكنه ظنٌّ وتخمين، لأن العدد المثالي للمدينة الإغريقية كان ذلك العدد، ومع ذلك فليس من المستغرب أن تبلغ المدرسة هذا العدد لأنها كانت تشمل الرجال والنساء على السواء، ونقول مدرسة تجوُّزًا لأنها كانت أشبه بفرقة دينية، ونظام من الإخوة، قريب من الفرق الصوفية التي انتشرت في الإسلام.
اجتذبت شخصية فيثاغورس القوية وتعاليمة المتنوعة كثيرا من الأتباع والتلاميذ، وخضعت لنظام تعليمي دقيق، وهي أول مدرسة أفسحت المجال لتعليم المرأة، ووضعت مبدأ شيوعية المرأة قبل أفلاطون بقرنين من الزمان، كما كان يتم تعليمها الفسلفة والآداب كذلك أمور تدبير المنزل والأمومة، حتى اشتهرت المرأة الفيثاغورية في الزمن القديم أنها أفضل نساء الإغريق.
كانت المدرسة تستقبل الرجال والنساء على السواء من جميع الطبقات، فهي أشبه بالمدينة الفاضلة أو المجتمع المثالي كما يجب أن يكون، وقد رغب أفلاطون في أن ينشئ مدينة فاضلة ولكنها ظلت حبرا على ورق ولم تخرج لحيز التنفيذ.
والمدرسة إلى ذلك كانت ذات وجهَين، أحدهما رياضي، والآخر أخلاقي وديني، أمَّا الجانب الرياضي فلم يكن يصلح لهذا العدد الكبير من الطلبة بطبيعة الحال، بل كان مقصورًا على قلة قليلة من الخاصة، ومعنى ذلك أن المدرسة -رغم أنها كانت سريَّة- كانت تُقدِّم دروسًا للخاصة في العلوم الرياضية، وأخرى للجمهور العام في الدين والأخلاق، وقد بقي هذا التقليد سائدًا في كثير من المدارس الفلسفية، وسنجده عند أرسطو الذي كان يُلقي دروسًا للخاصة في الصباح، وأخرى للجمهور العام في المساء، وهذه التعاليم الخاصة هي التي كانت تُحجب عن الجمهور، وتُسمَّى بالتعاليم المستورة، ويُسمِّيها الغزالي: المضنون به على غير أهله.
|