القاهرة 03 اكتوبر 2023 الساعة 12:50 م
بقلم: عيد عبد الحليم
تمثل تجربة الشاعر الفلسطيني الراحل مريد البرغوثي أحد المنعطفات المهمة في تجربة الشعر الفلسطيني الحديث، حيث يعتبر "البرغوثي" من الموجة الثالثة للشعر الفلسطيني، فالموجة الأولى ممثلة في عدد من الأسماء منها إبراهيم طوقان، وفدوى طوقان، وجبرا إبراهيم جبرا، ومعين بسيسو، وتوفيق زياد، والموجة الثانية التي أحدثت تغييرًا نوعيا في بنية الخطاب الشعري من خلال مجموعة من الأصوات التي رسخت لما يسمى "شعر المقاومة" تجلى ذلك واضحا في تجارب أحمد دحبور، ومحمود درويش، وسميح القاسم وخيري منصور، ثم جاءت الموجة الأكثر حداثة مع جيل السبعينيات ممثلة في تجارب مريد البرغوثي، وعز الدين المناصرة، والمتوكل طه، وعبد الناصر صالح، وغسان زقطان، وزكريا محمد وغيرهم.
إلا أن تجربة "البرغوثي" ظلت في مكان مختلف لها ذائقتها الخاصة، حيث إنها تخلصت في كثير من مراحلها من الصوت الجهوري الذي انحازت له القصائد المعبرة عن "القضية" بأبعادها السياسية، وهذا لا ينفي وجود القضية الفلسطينية داخل نصوص "البرغوثي"، لكنه استخلص منها البعد الإنساني في إطار فلسفي مقطر بعيدًا عن الثرثرة والمباشرة، وهنا تحضرني مقولة "ستيفن سبندر": "أن مهمة الشعر لا تعدو مجرد تقرير موقف الحياة الإنسانية على حقيقته، فلا يستطيع الشعر أن يفعل أكثر من أن يؤكد لنا أن كل من يجور على الحياة يدفع ثمن ذلك غاليا".
وهذه المقولة تنطبق على "أدب المقاومة" بشكل عام حيث يحقق المبدع في فنه وجوده، ووجود الآخرين والأشياء من حوله، فالفنان ليس أداة إصلاح مباشرة للجماعة، بل أداة كشف وإضاءة، فالأديب هو صاحب رسالة ونزعة إنسانية عميقة المغزى.
وهذا -بالضبط- ما يتجلى في الخطاب الشعري لمريد البرغوثي، بداية من ديوانه الأول "الطوفان وإعادة التكوين" 1972، والقائم على فكرة "أسطرة الواقع"، وفي هذا الديوان لم يكن قد تخلص من تأثير خطاب المقاومة في التجارب الشعرية السابقة عليه. ومن بعده نجد هذا التأثير يمتد لديوانه الثاني "فلسطيني في الشمس" 1974.
ومع ديوانه الثالث "نشيد للفقر المسلح" 1977 وديوانه الرابع "الأرض تنشر أسرارها" 1978، وديوانه الخامس "قصائد الرصيف" 1980بدأت أجنحة الشعر لديه تحلق في آفاق أكثر رحابة، حيث التعبير عن الهامش والمسكوت عنه اجتماعيًا وملامسة التفاصيل العادية وتحويلها إلى رموز في فضاء المخيال الشعري، وهنا يتحول الوطن إلى تفاصيل صغيرة حين تتجمع تكون صورة كلية له، وتصل هذه الحالة إلى ذروتها في ديوانه السادس "طال الشتات" والذي يمثل حالة من التشظي الشعري.يقول في قصيدة "أضع اليد اليمنى على الخد الأيمن" معبرًا عن أحوال الشاعر:
ممسكًا قلما
والمساحة مفتوحة للقصيدة
(تبدو المساحة مفتوحة للقصيدة)
لكنني، بملامح هادئة
لا تدل على ضجة الموج
أو رجة الروح
أدرك أن المساحة ضيقة
كيف للبحر أن يدخل الورق الآن؟
فلتهدأ العاتيات قليلا
لأسمع صمتي وأرسمه صورة
للحبيب،
لحاصدة القمح مغمورة بالسنابل،
للصندل المتآكل،
والمنجل المتآكل،
للداية المتهللة الوجه،
للكف رافعة حافة النعش
• صور شعرية
في هذا الديوان نجد ما يمكن أن نسميه "قصائد البورتريه الشعري"، حيث يرسم الشاعر صورًا شعرية لأشخاص قريبين أو بعيدين عنه، لهم تأثير واضح على حياته، وبعضهم عابر كلحظة خاطفة، هذه الصور في تناثرها تمثل صورة بديلة عن الوطن الذي تركه الشاعر وهو في بداية سن الشباب ليلتحق بالدراسة الجامعية في القاهرة، ومن هؤلاء د. رضوى عاشور رفيقة دربه في الحياة لأكثر من خمسين عامًا منذ أن تزاملا معًا في مقاعد الدراسة، يقول البرغوثي في قصيدة "رضوى"/ التي نراها في القصيدة كبديل عن الوطن البعيد الذي يتألم في الشتات:
على نولها، في مساء البلاد
تحاول رضوى نسيجا
وفي بالها كل لون بهيج
وفي بالها أمة طال فيها الحداد
وفي قصيدة "أبو منيف" عن والده يقدم مرثية له وللحلم الذي ضاع في المنفى قائلا:
وتموت في المنفى
ومن منفى سواه
يطير وحش النعي
من منفى إلى منفى وتبتعد البلاد
بخبزها وجرارها ومنمنمات العشب
في أسوارها
بهشاشة القمر الذي يسري بأخضره
على صبارها
وندى على تين على غصن على شجر
تلاعبه العصافير المصابة بالغباء فلا
تكف عن الرحيل ولا تحس بضيعة الأوطان مثل الناس
وبالمثل نراه يستحضر أمل دنقل، ونجيب سرور، ويحي الطاهر عبد الله، وكلهم من أصدقائه ومن رفاق الرحلة الذين رحلوا مبكرا ممن غدرت بهم الحياة رغم موهبتهم الفارقة، وكأنه يرى فيهم أيضًا صورة الوطن الضائع، يقول "البرغوثي" في مطلع القصيدة:
كل ميت قتيل!
كل موت جريمة!
حسن يا فتى
هذه حصتك
غرفة ضيقة
والردى يتزاحم فيها معك
في مآقيك لؤلؤة لا ترى
في يديك الهواء
لا يداويك طب
وأنت لقومك بعض الدواء.
• محاورة الأشياء
ويمتد هذا الخيط حتى ديوانه الأخير"استيقظ كي تحلم" والصادر عن دار رياض الريس 218، لكن تتبدل الصورة حيث نجد طريقًا أخرى للبحث عن الوطن المفقود، تكمن في محاورة الأشياء وأنسنتها من خلال أسئلة الشعر الشائكة، فنراه في قصيدة "موسيقى بلا نحاس" يحاور الحرب بقسوتها المدمرة سائلا إياها عن نهاية محتملة للألم الإنساني على الأرض:
أعرف أنها لا تجيب
لكني، بين غارتين
سألت الحرب أسئلة بسيطة:
من أين تأتين بهذه الهمة؟
أتعلمين أنك لم تطلبي إجازة
من عملك على أرض البشر
منذ كان البشر؟
وفي قصيدة "سلة الفواكه" نجد أن كل الأشياء ومنها الأشجار تحمل طاقة للمقاومة، وكأنها بشر، وهنا يحدث نوعا من التماهي والتداخل الدلالي:
الأشجار التي بدت لك، مثلنا، ميتة
كانت تحاول طوال الوقت،
كانت تحارب طوال الوقت.
وفي قصيدة "قالت الدقائق" نجد محاورة لفكرة الزمن وجدواه حيث يقول البرغوثي على لسان الوقت:
أنا أثمن من أن تبددني
في مناقشة هذا المتعصب السعيد
دعه يذهب في سبيله
لا تحاول إقناعه بشيء
شجرة البلاستيك
مهما رويتها
لا تنمو عليها ورقة واحدة.
وفي قصيدة "في مديح الأشباح" نجد توظيفًا لموروث الطفولة والخوف من الأشباح الذي يتردد في حكايات الأمهات لأطفالهن، قناعا لرؤية الواقع الآني ومواجهة الأشباح الحقيقيين، وعلى رأسهم -بالتأكيد- من سلبوا الوطن حريته، فأشباح الحكايات تأتي للتسلية، بينما أشباح الواقع لا بد من مواجهتهم:
قد يخطفون الصغار من الفراش
أو يكسرون عليهم الحائط
أو النافذة
أو السقف
قد يعذبونهم في القبو
لكل هذا
يخاف الأطفال حكاية الأشباح
وربما نلمح ما وصلت إليه القضية الفلسطينية من خلال تناحر الفصائل الفلسطينية على السلطة، مما أدى إلى خفوت صوت المقاومة في السنوات الأخيرة، نرى ذلك في قصيدة "القبطان" وهي قصيدة رمزية إشارية لها دلالات متعددة وأفق مفتوح على التأويل:
السفينة، ركابها الآن أعداؤها
والطريق اختلف
تأخر عن وقته كل شيء
تبكر عن وقته كل شيء
وهذا التلف
جديد قديم
ووجهتنا لم تعد واحدة.
• رؤى سردية
وحين أَحس "البرغوثي" في بعض الفترات بأن الحنين لأماكن الطفولة والصبا أكبر من إطار القصيدة، لجأ إلى الكتابة السردية ليسجل فيها أوجاعه وأشواقه للبيت القديم وحضن الأم ومراتع الطفولة، ظهر ذلك في كتابه السردي الرائع "رأيت رام الله"، والذي حصل على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية بالقاهرة بعد صدوره مباشرة عام 1997.
ويحتوي الكتاب والذي عده كثير من النقاد رواية في حين أنه ينتمي إلى كتب السيرة الذاتية- على فصول عن الأهل والأصدقاء ، ومن أجمل هذه الفصول، ما كتبه البرغوثي عن صديقه فنان الكاريكاتير الراحل ناجي العلي والذي تم اغتياله من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
وتقدم الرواية/السيرة تساؤلات حول الهوية والذاكرة الجماعية وتحولات المكان وأحوال اللاجئين ووضعية الغرباء، يقول "البرغوثي":
"الغريب هو الشخص الذي يجدد تصريح إقامته. هو الذي يملأ النماذج ويشتري الدمغات والطوابع، هو الذي عليه أن يقدم البراهين والإثباتات".
وحين عاد "مريد" لمكان الطفولة الأول بعد أكثر من أربعين عاما عاد إليه بذاكرة الصبي وبمفردات البراءة لأن رحلته مع المكان تختلف كثيرًا عن غيره حيث يقول: "علاقتي في المكان هي في حقيقتها علاقة بالزمن".
أما كتابه السردي الثاني "ولدت هناك ولدت هنا" وهو أقرب للسيرة الذاتية، حيث نرى ظلال رحلة سفره للقاهرة في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وإحساسه في البداية بالغربة والذي سرعان ما تلاشى هذا الإحساس بعد تعرفه على الحياة المصرية ولقائه برفيقة عمره الكاتبة "رضوى عاشور"، وبعض الحكايات عن عودته لرام الله في زيارات متقطعة.
ويمتلئ الكتاب بالقصص الإنسانية التي تؤرخ لحنين الشاعر لمكانه الأول ذلك "الفردوس المفقود"، فالكتاب -في حد ذاته- مرثية لزمن قديم، وأفق مفتوح - من ناحية أخرى- على زمن قادم.
|