القاهرة 26 سبتمبر 2023 الساعة 02:12 م

قصة: خوان رولفو - المكسيك*
ترجمة: أسامة الزغبي
* من المجموعة القصصية (السهل يحترق) 1983
أنت يا من بالأعلى هناك، إجناثيو، أخبرني إن كنت تسمع أية إشارة أو ترى ضوءًا ما في أي ناحية.
ــ لا أرى شيئا.
ــ يجب أن نقترب.
ــ نعم، ولكن لا يُسمع صوت.
ـــ انظر جيدًا
ـــ لا يُرى شيء.
ــــ مسكين أنت يا إجناثيو.
واصل الظل الطويل والأسود للرجال في التحرك صعودا وهبوطا، محاطا بالصخور، متضائلا ومتزايدا حسبما يتقدم على حافة السهل. كان ظلًا وحيدًا، ومرتعشا.
كان القمر يأتي خارجا من الأرض، مثل شعلة لهب دائرية.
ــ يتوجب علينا الوصول لهذه القرية، يا إجناثيو. يا ذا أذنيه تطل على الخلاء، ركز لربما تسمع نباح الكلاب. تذكر أنهم أخبرونا أن تونايا توجد وراء الجبل. ومنذ متى تركنا الجبل، تذكر يا إجناثيو.
ــ نعم، لكن لا أرى أثرا لشيء.
ــ بدأت أشعر بالتعب.
ــ أنزلني.
واصل العجوز التقهقر حتى وصل للحائط واستند إليه، دون أن يخفف الحمولة عن كتفيه. وعلى الرغم من التواء ساقيه، لم يشأ أن يجلس، لأن بعدها لن يستطيع أن يحمل جسد ابنه، الذي، قبل ساعات، هناك بالخلف، ساعدوه على حمله على ظهره. وهكذا حمله منذ ذلك الحين.
ــ بمَ تشعر؟
ــ بألم.
كان قليل الكلام. وأقل بمرور الوقت. أحيانًا يبدو نائمًا. وأحيانًا أخرى يشعر بالبرد. كان يرتعش. كان يعرف متى تتمكن الرجفة من ابنه بسبب الهزات التي يسببها له، ولأن قدميه كانتا تلتفان حول جنبيه مثل المهماز. لاحقًا، أحاطت يدا ابنه، المعلقتين حول رقبته، برأسه كما لو كانت جرسا.
كان يعض على أسنانه كي لا يعض لسانه وعندما ينتهي من ذلك كان يسأله:
ـ هل تألمك كثيرًا؟
ـ نوعا ما ـ يجيب.
قال له في البداية: " انزلني هنا... اتركني هنا... اذهب بمفردك. سألحق بك غدًا أو عندما أستريح قليلاً." قال له ذلك ربما أكثر من خمسين مرة. الآن حتى ذلك لا يقوله. القمر يملأ السماء. في مواجهتهم. قمر كبير وملون يملأ أعينهم بالنور ويبسط ظله الأسود على الأرض.
ـ لا أري الطريق ـ يقول.
لكن لم يكن يرد عليه أحد.
بالأمس كان يصعد لأعلى، في حين يضيء القمر المكان، بوجهه الباهت، دون احمرار، عاكسًا ضوءًا معتمًا. وهو هنا بالأسفل.
ــ هل سمعتني يا إجناثيو؟ أقول لك إني لا أرى شيئًا.
ويظل الآخر صامتًا.
واصل السير، متعثرًا. ينكمش جسده ثم يعتدل كي يواصل التعثر مجددًا.
ـ هذا ليس بالطريق. أخبرونا بأن تونايا موجود خلف التل. وها قد تجاوزنا التل. ولا يُرى أثر لتونايا، ولا يسمع أي صوت يخبرنا بأنه قريب. لماذا لا تريد إخباري بما ترى، بما أنك بالأعلى، يا اجناثيو؟
ــ أنزلنى، يا أبي.
ـــ هل تتألم؟
ــ نعم.
ـــ سأحملك إلى تونايا متى استوضحت الطريق. سأجد هناك من يعتني بك. يقولون بأن هناك طبيبًا. سأحملك معه. حملتك منذ ساعات ولن أتركك ملقى هنا ليقضي عليك كائنا من كان.
تمايل قليلا. خطا خطوتين أو ثلاثة جانبًا ثم عاد واستقام في الطريق.
ــ سأحملك إلى تونايا.
ــ أنزلني.
أصبح صوته هادئًا، لا يكاد يسمع.
ــ أريد أن أضطجع قليلا.
نم بالأعلى. فأنا أمسك بك جيدًا.
واصل القمر الارتفاع، مشربا بالزرقة، في سماء صافية. امتلأ وجه العجوز، المتصبب عرقًا، بالضوء. أخفى عينيه كي يتفادى النور المواجه له، لأنه لم يكن يستطيع خفض رأسه التي تمسك بها أيدي ابنه.
ــ كل ما أفعله، لا أفعله من أجلك. بل من أجل المرحومة أمك. لأنك ابنها. ولهذا أفعله. كانت لتوبخني إن تركتك ملقىً هناك، حيث وجدتك، ولم أحملك لمن يعالجونك، مثلما أفعل. هي من تمنحني القوة، ولست أنت. بداية لأنني لا أدين لك سوى بأكثر من المصاعب، والآلام، والخذلان.
كان يتعرق أثناء الحديث. لكن ريح الليل كانت تجفف العرق. ثم يتعرق من جديد، فوق العرق الجاف.
ــ سأتعب كثيرًا، لكن سأصل بك إلى تونايا، حتى يعالجوا تلك الجروح التي أوقعوها بك. وأنا متأكد، من أنك بمجرد أن تشفى، ستعاود شقاوتك. هذا لم يعد يهمني. ولتذهب بعيدًا، حيث لا أعرف عنك شيئا. بهذا.. لأنك لم تعد ابني. ألعن دمائي التي تحملها. لعنت الجزء الذي يخصني. قلت: "لتتعفن الدماء التي منحتها له بكليتيه!" قلت ذلك منذ علمت أنك تتسكع بالشوارع، وتعيش على السرقة، وقتل الناس.. الناس الطيبون. وإذا لم أفعل، فهناك عرّابي ترانكيلينو. الذي قام بتعميدك. منقام بتسميتك. كان حظه هو أيضًا عاثر بلقائك. من ساعتها قلت: "لا يمكن أن يكون هذا ابني".
ــ انظر لربما ترى شيئًا. أو تسمع شيئًا. حيث يمكنك فعل ذلك من أعلى، لأننى أشعر بالصمم.
ـــ لا أرى شيئًا.
ـــ حظك عثر، يا إجناثيو.
ــ أشعر بالعطش.
ـــ لتتحمل! لا بد أننا اقتربنا. نحن بالليل ولا بد أنهم قد أطفئوا الأنوار. لكن على الأقل كان يجب أن يُسمع نباح الكلاب. استرق السمع.
ــ أعطني ماء.
ـــ لا يوجد ماء هنا. ليس ثمة أحجار هنا. احتمل. فحتى لو كان معي ماء، لم أكن لأنزلك كي تشرب. فلن يساعدني أحد على حملك مرةً أخرى، ولا أستطيع أن أفعل ذلك بمفردي.
ــ أشعر بعطش شديد ويغشاني النعاس.
ــ أتذكر حين وُلدت. كنت هكذا من يومها. تصحو جوعان وتأكل كي تعاود النوم. كانت أمك تعطيك الماء، لأنك كنت تأتي على كل اللبن الذي بصدرها. لم تكن تشبع قط. وكنت مزعجًا جدًا. لم أظن قط أنه مع الوقت ستترك هذا الإزعاج... ولكن هذا ما حدث. أمك، طيب الله ثراها، أرادت أن تنمو قويًا. كانت تظن أنك عندما تكبر ستكون سندها. لم ترزق بسواك. ماتت وهي وتلد ابنها الآخر. ولو كانت عاشت حتى هذه اللحظة لقتلتها أنت مرةً أخرى.
شعر بأن الرجل الذي يحمله فوق كتفيه لم يعد يضغط على ركبتيه وبدا في ترك قدميه، تترنحان من جانب لآخر. شعر بأن رأسه، بالأعلى، تهتز كما لو كانت تتشنج.
شعر بوجود بلل غزير فوق شعره، كما لو كانت دموعًا.
ـــ هل تبكي، يا إجناثيو؟ هل ذكرى أمك تبكيك، حقًا؟ ولكنك لم تفعل شيئا قط من أجلها. قابلت حسن صنيعها دومًا بالإساءة. يبدو أنه، بدلاً من العطف، أودعنا جسدك القسوة. هل ترى؟ لقد جرحوك الآن. ماذا حدث لأصدقائك؟ هل قتلوهم جميعًا.
لكنهم لم يكن لهم أحد يسأل عليهم. ربما استطاع هؤلاء أيضا القول: "ليس لدينا من نبكي عليه". لكن في حالتك، يا إجناثيو؟
هناك اقتربت القرية. رأي الأسطح تلمع تحت ضوء القمر. شعر بأن جسد ابنه كان يضغط عليه عندما شعر بأن فخذيه يترنحان على وقع الجهد الأخير. عند الوصول إلى أول منزل ارتاح فوق سور الرصيف وترك الجسد، الهزيل، كما لو كان يخلعه.
بصعوبه تخلص من أصابع ابنه التي ظلت متعلقة برقبته طوال الطريق، وعندما شعر بالتحرر، سمع نباح الكلاب من جميع الجهات.
ــ ألم تكن تسمعها ، يا إجناثيو؟ .. حتى في هذا الأمر لم تساعدني.
|