القاهرة 19 سبتمبر 2023 الساعة 09:43 ص
قصة: خوسيه إيميلو باتشيكو - المكسيك (1939-2014)
ترجمة : أسامة الزغبي
• من المجموعة القصصية (الرياح البعيدة)
لن تنسى أبدًا تلك الظهيرة من أغسطس. كنت تبلغ أربعة عشر عاما، وعلى وشك إنهاء المرحلة الإعدادية. لا تذكر أباك، الذي توفى قبل أن تولد بوقت قصير. كانت أمك تعمل في شركة سياحية. في كل الأيام، من الإثنين إلى الخميس، تستيقظ في السادسة والنصف. تاركا حلمًا بمعارك تدور على شاطئ البحر، إغارات على حصون الغابة، إنزال في أراضي العدو. ثم تبدأ في الدخول إلى يومك الذي من الضروري فيه، أن تعيش، وتكبر، وتودع الطفولة. تشاهدون التلفاز بالليل دون تبادل للحديث. ثم تغلق على نفسك لقراءة روايات لسلسلة إسبانية، مجموعة بازوكا، قصص عن الحرب العالمية الثانية والتي تمجد المعارك وتسمح لك بالدخول لعالم البطولة الذي طالما حلمت أن تعيشه.
يجبرك عمل والدتك بالأكل في منزل أخيها. كان فظا، لم يكن يظهر لك أي عطف ويطلب كل شهر ثمن طعامك بانتظام. لكن كان وجود خوليا يعوض كل شيء، ابنة خالك العصية عليك. كانت تدرس خوليا علوم الكيمياء، والوحيدة التي تمنحك مكانا في هذا العالم، ليس بدافع الحب، كما ظننت وقتها، بل بسبب التعاطف مع الدخيل، اليتيم، الذي ليس له أية حقوق.
كانت خوليا تساعدك في الواجبات المدرسية، تتركك تستمع لإسطواناتها، تلك الموسيقى التي لا يمكن أن تسمعها الآن دون أن تتذكرها. أخذتك للسينما بإحدى الليالي، ثم عرفتك على خطيبها، وهو أول من استطاع زيارتها في المنزل. كرهت بيدرو من يومها. كان زميل خوليا في الجامعة متأنقًا في ملابسه، يتحدث بنفس طريقة عائلتك. كنت تخشاه، كنت متأكدا من أنه عندما ينفرد بخوليا يسخر منك ومن روايات الحرب التي تحملها في كل مكان. يزعجه أن تبدي تعاطفا مع ابنة عمك، يعتبرك رقيبًا، معوقًا، ولكن ليس أبدًا منافسًا.
أتمت خوليا عشرين عامًا في هذه الظهيرة من أغسطس. بعد انتهاء الغداء، سألها بيدرو إذا كانت ترغب في التنزه في أحياء المدينة بسيارته. اذهب معهما، أمر خالك. يزغلل ضوء الشمس عينيك وأنت غارق في المقعد الخلفي، وتحرقك الغيرة. تسند خوليا رأسها على كتف بيدرو، ويقود بيدرو بيد واحدة كي يعانق خوليا، ويهتز الراديو على وقع أغنية خاص بذاك الوقت، بدء المساء يحل على مدينة الحجر والتراب. شاهدت من النافذة آخر المنازل والمعسكرات والمقابر وهي تختفي. بعد ذلك ( كانت خوليا تقبل بيدرو، وأنت غارق في المقعد الخلفي) الغابة، والجبل، واقتربت أشجار الصنوبر التي يمزقها الضوء من عينيك كما لو أنها كانت تغطيها كي تمنع عنها البكاء.
في النهاية أوقف بيدرو السيارة الفورد أمام دير متهالك. نزلوا وساروا في ممرات مليئة بالطحالب وصدى الصوت. ألقوا نظرة على السلم المؤدي لممر مظلم تحت الأرض. تكلموا، همسوا، سمعت أصواتهم من خلال جدران غرفة مخصصة للصلاة ترسل حجارتها الأصوات من زاوية لأخرى. رأيت الحديقة، والغابة الرطبة، والأشجار بأعلى الجبل، ولم تشعر بأنك اليتيم، ولا الدخيل، ولا ابن العم الفقير المتعثر في دراسته والذي يعيش في منزل بائس بمقاطعة إسكندون، بل أحد أبطال دونكيرك، وطبرق، والعلمين، وستالينجراد، ونارفيك، وميدواي، الانزال في نورماندي، وبارسوفيا، ومونتي كاسنيو، ولاس أرانداس. قائد بالفيلق الأفريقي، أحد ضباط سلاح الفرسان البولندي، قتال بطولي وانتحاري ضد دبابات هتلر. روميل، ومونتجمري، وفون رونتسدت، وزوكوف. لم تكن تفكر لا في الطيبين ولا الأشرار، ولا في الضحايا ولا الجلادين. معيارك الوحيد كان الشجاعة أمام الخطر والنصر على الأعداء. في هذه اللحظة كنت بطل مجموعة بازوكا، المقاتل القادر على كل شيء في الحرب لأن هناك امرأة ستحتفل بمجدك وسيدوي نصرك للأبد.
حل الفرح محل الحزن. جريت وتحررت بقفزة واحدة من الشجيرات والحواجز بينما يقبل بيدرو خوليا ويطوقها من خصرها. نزلا إلى مكان يبدو أن الغابة تولد فيه مع تيار من المياه الباردة ولافتة تحذر من قطع الأزهار أو مضايقة الحيوانات. ساعتها رأت خوليا سنجابا في قمة شجرة صنوبر وقالت: أود أن أحمله معي للمنزل. لا يمكن اصيطاد السناجب، رد بيدرو، وإذا حاول أحدهم فهناك الكثير من حراس الغابة سوف يعاقبونه. جازفت بالقول: سأقوم باصطياده. وصعدت الشجرة قبل أن تتمكن خوليا من قول لا.
تغوص أصابعك التي جرحها لحاء الشجرة في الصمغ. ساعتها قفز السنجاب لأعلى. تابعته حتى وضعت قدميك على أحد الأغصان. نظرت لتحت وشاهدت حارس الغابة يقترب وبيدرو، بدلًا من أن يبعده بشكل أو بآخر، تبادل معه حديثًا ما، وتتجنب خوليا النظر إليك رغم أنها كانت تراك. لم يكشفك بيدرو ولم يرفع الحارس عينيه، لانهماكه في الحديث. كان بيدرو يطيل الحديث بكل الوسائل الممكنة. يرغب في أن يعذبك دون أن يتحرك من على الأرض. لاحقًا سيعتبر كل شيء كنكتة سخيفة وسيسخر هو وخوليا منك. كانت طريقة مأكدة لمحو انتصارك وإطالة إذلالك.
ولأنه قد مرت عشر دقائق. بدأ الغصن في السقوط. شعرت بالخوف من السقوط والموت، وفي أسوأ الأحوال، أن تخسر أمام خوليا. إذا نزلت أو إذا طلبت مساعدة فسيقوم حارس الغابة بسجنك. تواصل الحديث وتحداك السنجاب في البداية بالصعود لأعلى بضعة سينتميترات وبعد ذلك نزل وجرى مختفيًا في الغابة، بينما كانت خوليا تبكي بعيدًا عن بيدرو، وحارس الغابة، والسنجاب، لكن بعيدًا عنك، مستحيل.
في النهاية غادر حارس الغابة، ترك بيدرو في يديه بضعة أوراق مالية، وطلبت النزول وأنت شاحب، مرتبك، مذلول، وعينيك مليئة بدموع لم يكن من المفترض أن تراها خوليا لأنها كانت توضح أنك يتيم، ودخيل، وليس بطل آيوو جيما ومونت كاسينو. توقفت ضحكة بيدرو عندما نادت عليه خوليا بكل جدية: كيف فعلت هذا، إنك حقير. أني أكرهك.
صعدا مرة أخرى للسيارة. لم تترك خوليا بيدرو يعانقها. كان الليل قد دخل عندما وصلا للمدنية. نزلت في أول ناصية بدت لك معروفة. همت على وجهك لبضع ساعات وعندما عدت للبيت قصصت على أمك كل ما حدث. بكيت وحرقت كل مجموعة بازوكا ولم تنس قط هذه الظيرة من شهر أغسطس، التى كانت آخِر مرة رأيت فيها خوليا.
|