القاهرة 19 سبتمبر 2023 الساعة 09:32 ص

كتب: صلاح صيام
رغم احتفاظ ملك العود الموسيقار فريد بعلاقات وطيدة مع ساسة وزعماء مصر والعالم العربي، لكن هذه العلاقة لم تكن على ما يُرام خلال العهد الملكي، لدرجة دفعت الزعيم الوفدي ورئيس وزراء مصر مصطفى النحاس باشا إلى التدخل لمنع إذاعة أشهر أغاني فريد في طليعة الخمسينيات وهى أغنية "يا عواذل فلفلوا" لكن ما الأسباب التي دفعت النحاس لمنع أغنية فريد الأطرش؟!
بعيدًا عن الأسباب التي ذكرتها الصحف آنذاك من جرأة كلمات الأغنية التي ألفها أبو السعود الإبياري، والتي لا تتوافق مع أخلاق وقيم المجتمع، كان هناك سبب آخر يكمن وراء هذا المنع، ويتمثل في المناكفات السياسية بين النحاس باشا وزعيم سياسي آخر هو على باشا ماهر، آخر رئيس للوزراء في عهد الملك فاروق، وكان تشكيل الوزارة في مصر محصورا بين هذين السياسيين.
كانت أغنية فريد الأطرش "يا عواذل فلفلوا" قد انطلقت في الوقت الذي تشكلت فيه الوزارة الثالثة للنحاس باشا في عهد الملك فاروق عام 1950م، والتي شهدت عدة أحداث فارقة في تاريخ الوطن، منها اشتعال المقاومة الشعبية ضد الإنجليز في منطقة القناة، والتي تمخضت عن إلغاء النحاس لمعاهدة 1936م، وصولا إلى استقالة الحكومة الوفدية بزعامة النحاس في أعقاب حريق القاهرة في 26 يناير عام 1952م، والذي أفضى إلى ثورة يوليو فيما بعد.
في ذلك الوقت لم تكن زيارات علي باشا ماهر تنقطع عن قصر عابدين للقاء الملك فاروق، وهو ما أثار حفيظة غريمه السياسي مصطفى النحاس باشا، وراح يتهمه بتأليب الملك على الحكومة، وفي كل مرة يتم اللقاء بين علي ماهر والملك، يصدح فيها أثير الإذاعة بأغنية فريد الأطرش "يا عواذل فلفلوا" نكاية في النحاس، وكانت كلمات الأغنية، التى تُظهر صفو العلاقة بين حبيبين فشلت معها مساعي الشامتين والعُذال تُلبى هذا الغرض، حيث تقول كلماتها:
ما قال لي وقلت له.. ومال لي وملت له
وجاني ورحت له.. يا عواذل فلفلوا
قالوا لي كلام وقالوا له كلام
وكان بيني وبينه خصام
كلامهم زاد غرامي غرام
وفاض به الشوق بعت لي سلام
وسلامه فرحت له.. وقابلني ضحكت له
وقال لي وقلت له.. ومال لي وملت له
يا يا عواذل فلفلوا
في قربه يزيد حنيني إليه
وهو بعيد يا خوفي عليه
أخاف للناس يشوفوا عينيه
ويتمنوا يبوسوا إيديه
في إيديه كل الهنا وعينيه هي المنا
وحلف لي بحبنا وأنا برضه حلفت له
يا يا عواذل فلفلوا
وبهذا اتفق لدى النحاس سببان لمنعه تلك الأغنية، أولهما ما اعتبره خروجًا عن تقاليد المجتمع بكلمات عاطفية صارخة، وثانيهما إيقاف تلك المناكفة السياسية التي يظهرها ماهر مع كل مرة يلتقى فيها بالملك فاروق.
وهناك حكاية للمطرب الكبير فريد الأطرش لقصة هذه الأغنية التي منع إذاعتها النحاس باشا، يقول مطربنا الكبير في مذكراته التي نشرتها مجلة الموعد اللبنانية في مارس عام 1950 :
"طالبت وزارة مصطفى النحاس باشا الدخول في مفاوضات جديدة مع الحكومة البريطانية، واستمرت هذه المفاوضات 9 شهور ظهر فيها تشدد الجانب البريطاني مما جعل النحاس باشا يعلن قطع المفاوضات وإلغاء معاهدة 1936 واتفاقتى السودان، وقدم للبرلمان مراسيم تتضمن مشروعات القوانين المتضمنة هذا الإلغاء فصدق عليها البرلمان وصدرت القوانين التي تؤكد الإلغاء الذي نتج عنه إلغاء التحالف بين بريطانيا ومصر واعتبرت القوات الموجودة في منطقة القناة قوات محتلة ومن هنا بدأ النضال يشتعل مرة أخرى، ولكن هذه المرة نضال مسلح، وقد أدى إلغاء تلك المعاهدة لاشتعال حركة الجهاد ضد المحتل الإنجليزي خاصة في مدن القنال وفي هذه الفترة كان يعرض فيلمي "آخر كدبة" الذي كان يتضمن خمس أغنيات كلها من ألحاني وهي" ما قالي وقلتله"، كلمات صديقي الشاعر الرائع أبو السعود الإبياري، وراحت الإذاعة تقدمها لمستمعيها أكثر من مرة في اليوم، فمرة يطلبها المستمعون، ومرة ثانية تذاع ضمن برنامج "من كل فيلم أغنية" وثالثة مع غيرها من الأغنيات، وهكذا
وأثناء ذلك أدلى "النحاس باشا" بحديث لإحدى صحف الوفد حول هذه المفاوضات، ونشر الحديث ووضعت له الصحيفة عنوان "قالي وقلتله"، وفي اليوم التالي خرجت إحدى الصحف التي كانت تعارض الوفد ترد على حديث رئيس الوزراء تحت عنوان "ما قالي وقلت له" وثار رئيس الوزراء وأمسك التليفون واتصل بالأستاذ حسني نجيب، وكان وقتها مديرًا للإذاعة وطلب منه منع إذاعة أغنيتي "ما قالي وقلتله"، لأن الألفاظ والمعاني فيها ميوعة لا يرضاها للشعب، وكان أن منعت الإذاعة إذاعتها".
والغريب أنه رغم منع الأغنية فقد نجحت أكثر من المتوقع، فقد سجل فيلم "آخر كدبة" الذي تغنى فيه فريد بتلك الأغنية إيرادات كبيرة، وعززت من تربع فريد الأطرش على عرش "الفيلم الغنائي الاستعراضي"، حيث شكل ثنائيًا فنيًا متميزا مع الفنانة والراقصة سامية جمال، والفيلم من بطولة سامية جمال، وكاميليا، وإسماعيل يس، وعبد السلام النابلسي، ومن إخراج أحمد بدرخان.
|