القاهرة 12 سبتمبر 2023 الساعة 02:07 م
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
يمكن تعريف البنية في الخطاب الشعري بأنها بناء هندسي متراتب لإنشاء نص أو قصيدة لها صفة التراكب، عبر سياق فضاء النص، أو هي الطريق المخصوصة التي يبني عليها الشاعر شاعريته من خلال الوسيط اللغوي، عبر تحميل النص طاقات جمالية، ومعان مفارقة تحتمل التحليل والتأويل عبر سياق الشعرية الجديدة التي تحفل بالتراتب والتخالفية، عبر الترميز والنظر إلى خلف ظاهر النص، للوصول إلى مقصديات الشعرية، لا مقصوديات الشاعر، باعتبار موت المؤلف ضمنيًا، أو غياب الشاعر عبر الشعرية، ويبقى النص هو الدال على مقروئيات المتلقي، ومدى فهمه للبنى العميقة للنص، من خلال الانزياحات النصية، والمفارقة، والتضمين، وعبر أسطرة النص التي تصنع دهشة التلقي.
ومن هنا تكتمل دائرة الهرمينوطيقا النصية التي تسلسل المعني، وتوضح المعنى العميق، أو التى تعبر إلى جوهر الشعرية، عبر لغة ترميزية تصنع دلالاتها المفارقة التي تظهر المعنى الغائب، أو المختفي خلف ظاهر الشكل، وهنا يعبر المتلقي عبر المضمون إلى المعنى، وجوهر الشعرية الكامنة فيه.
كما تحتفي الشعرية العربية المعاصرة بالبنية العميقة للنص من خلال التراتب والتخالف والتضام، والمخاتلة، وربط المعنى بسياقاته الدلالية، والذاتية، والكونية. وهنا ينفتح النص على كونيته عبر ذاتية المتلقي كشريك للشاعر في صنع المعاني المتوشجة، التي أحدثتها فضاءات القراءة المعاصرة.
لقد تبنت الشعرية المعاصرة أسلوبها الخاص عبر اقتصاديات اللغة المائزة التي تنتهج أسلوبية الخطاب الإحالي المفارق، للوصول إلى سياقات النص وجوهر الشعرية داخله، ومن هنا تتوارى النظرية والمدارس الأدبية أمام التأويل، واستشراف فضاءات النص عبر المعنى الضمني، والمعاملات النصية التي يشكلها سياق وأفق المعنى، حيث لا مجال - هنا- لهارمونية التراتب، بقدر البحث عن تخالفات الأسلوب المفارق، المخاتل، الذي يصنع شعريته عبر ظلال المعنى، وما يصل القارئ من مفاهيم تخصه هو، والتي تصنع لديه الدهشة، والاكتمال الروحى، عبر كيمياء النص الجديد، وعبر الأثر النفسي الذي تحيله الدوال والمدلولات إليه.
لقد استطاع الشعر الحر أن يبني لذاته آفاقا جديدة عبر الشعرية المعاصرة، عبر التحرر من قيدي: الوزن والقافية لصالح المعنى الكوني الذي يخش عبر الذات والعالم، ويعبر - عبر التلقي والتأويل من قبل المتلقي - إلى معان وآفاق جديدة، عبر الشعرية العربية متجاوزة الزمان والمكان وظاهراتية الدلالة وأفضيتها اللغوية والجمالية، بل تجاوزت ذلك- فيما أحسب- لتخش إلى منعطف أكثر عمقا، عبر المخاتلة، وشعرية التأويل، وعبر التعارض والتقابل والتضام والمجاوزة وأسطرة النص، وغير ذلك.
فنقف أمام بوابات الدهشة وركامات التأويل، وجماليات النص، أو جماليات القبح معا، حيث لم يعد في شعرية ما بعد الحداثة مكانا للمقدس والجميل، عبر العجلة الكونية التي تستهدف القارىء، وتصنع منه البطل المشارك للنص، وكأن التلقي بهذا المعنى يكتسب صفة المشروعية الضمنية، بعيدا عن مقصدية الشاعر، أو الناص، عبر سياقات المعنى الجديد.
إنها شعرية الجنون، أو قل: شعرية البني التكوينية الجديدة التي يصنعها النص المحايث، والمخاتل، والمتناقص، والمتجانس معا، عبر جينات النص وهندسته 1البنائية المعاصرة.
لقد ترسخت أقدام الشعرية العربية المعاصرة في تربة الفضاء الإبداعي، وغدا النص، والناص، والمتلقي، يشكلون حائط البناء الماورائي كذلك للنص، بحسب نظريات عالم ما بعد الحداثة، وما بعد الكونية، حيث موت المؤلف والمتلقي، بل والنص، والتحليق معه إلى أفق العدم، وشعرية الجماد، أوالقصيدة الميكانيكية الجديدة التي صنعتها الميديا، بعد أن تجاوزت موضوعة الكتابة عبر النوعية، لتظهر لنا ألوانا وأشكالا وأجناسيات جديدة، تجاوز شكل ومضمون وموضوع ولغة القصيدة العمودية، بل وقصيدة التفعيلة، لنعبر إلى قصيدة النثر، والتي أراها- قد أصبحت تراثا قديما أمام قصيدة المعنى، والقصيدة النصية، والتفاعلية التي تتضام وتتقارن وتتقاطع فيها الرموز والدلالات لتشكل أفقا لا تراتبيا، حيث لا معقولية تخاطب العقل، وتجاوز كذلك فلسفة النص، وعلم الجمال العلاماتي، بل وتعبر العلوم التطبيقية، والما بعد فيزيقية، والتي تجاوز أفق التلقي، وتُحدث الصدمة البصرية والعقلية، كما تعتبر الفجوة النصية بمثابة البداية أو النهاية التي تمتد إلى ما ورائيات المعنى، ومن هنا تسقط الحقيقة أمام اللا برهان، ويسقط النص أمام التجريب، أو التخريب.
فلا مجال هنا لوحدة المعنى، وجماليات الأسلوب، والخيال كطرائق لتنامي القصيدة، بل وقعت القصيدة -بحسب نظرية ما بعد الحداثة- في فخ اللاتراتب، واللاتجانس، واللامنطقية، وغدت القصيدة ،أو النص، طلسمًا يضيف إلى الرمز والموضوع مستغلقات جديدة، ومن هنا تنفتح القصيدة أو النص على فضاءات التأويل للمعنى، لا التأويل لظاهر المعنى، وغدا النص الجديد – الما بعد حداثي يبحث في ماورائيات المعاني ولا يتقصد غائية محددة، أو برهان، أو حقيقة تمثل خيطًا للتلقي، وكأننا أمام فلسفة جديدة لتهويمات شعرية لا ضابط لها، أو دلالة، أو سياق، بل سقطت العلامة السيميائية أمام اللادوال، واللامدلولات، وغدونا نبحث عمن سرق المشار إليه في النص الجديد!
لقد تبنى منظرو ما بعد الحداثة آفاقا لا ميتافيزيقية، لتتم خلخلة الثوابت، ومحو القيم، بل والأديان، وغدت جماليات القبح، والفن للفن، والفن للحياة، والاحتفاء بالطبيعة، والهايكو، بمثابة المحور الجديد لإعادة تشكيل العالم الضمني، أو الافتراضي، أو عالم ما بعد الماورائيات. فتم تقييد الخيال لصالح القيم الاستهلاكية الرأسمالية، وبغرض تغليب القطبية، أو المركزية الأوروبية لتركيع العالم وحكمه. ولقد تبنت الدول المحورية سياسة المحو، والغزو الثقافي والفكري لإدارة العالم الجديد، وغدا سلاح الثقافة، والخطاب العالمي هو المهيمن على ثقافات الشعوب والممالك والأقطار، فتم ضرب التراث، وخلخلة الثوابت الاجتماعية والدينية، والعادات والتقاليد والقيم، لصالح خطاب عالمي يتبنى إرادة القوة للسيطرة على العالم من خلال الإعلام، وتمرير الأكاذيب، وتشجيع أدب الصمت والسكون، أو أدب الفحش بدعاوى الحرية الشخصية.
ومن هنا انفتح الكون على ثقافات مهيمنة تنتهج الدمار والقتل والمحو عبر صراع الحضارات، وتغليب المصالح الرأسمالية على حساب الثقافة والتراث والهوية، وغدا العالم قرية كونية، بل غرفة تديرها إرادة القوة، أو الأقطاب المتصارعة للاستيلاء على مقدرات الشعوب والأمم، ولتغليب ثقافة واحدة - مهيمنة- تتحكم في كل شيء من أجل السيطرة والتحكم ونهب الثروات، وغدا خطاب القوة هو المهيمن، والمكبل للعقل، أمام جبروت الآلة المدمرة، والتقنية الموجهة لتغليب ثقافة مركزية مهيمنة، ولا مجال للسيادة والهيمنة - هنا- إلا بالخطاب، بتعدد مستوياته السياسية والاجتماعية والثقافية.
إن الخطاب الشعري -كما أزعم- هو الخطاب الأخير الذي يمكن أن يجابه المد الأممي للهيمنة والكوكبية، وعالم الأقطاب المتصارعة، لأن هذا الخطاب يشكل الصناعة الروحية، التي تخاطب العقل والوجدان معا، وتخاطب الهوية، التي تمثل أكبر المنعطفات لردع المد الأممي الذي ينشد الهيمنة عبر القطبية والكونية، والشرق أوسطية، وعالم ماك، ولن نقول الامبريالية فحسب، لأن صراع الأبطال الان قد أحدث شروخات في العقل العالمي، وكشف زيف ودعاوى الحرية والتنوير، مقابل أحلام البسطاء في الدول النامية - العربية والإسلامية والأفريقية- التي لا زالت تتمسك بهوياتها وقومياتها وثقافاتها وحضاراتها الأصيلة.
ومن كل ذلك فإن الخطاب الشعري العربي المعاصر يمكن أن يمثل حاضر الشرق العربي الذي يحمي الثوابت والقيم التي تسيج جوهرها الأديان، ضد دعاوى الإلحاد، وموت المؤلف/الإله، مقابل المناداة بدعاوى الطبيعيين، ومقابل نظريات الأمركة والعولمة والامبريالية وسياسة المحو وصراع الحضارات، ونهاية العالم التي رسخ لها فوكوياما وغيره، والتي تلقفناها-للأسف في مجتمعاتنا بكل أريحية، كمقلدين للثقافة، ومستهلكين للعولمة، دون النظر إلى العقل النقدي العربي، ودون فصل المنتج الثقافي والحضارة للشرق بقيمه وأديانه عن دعاوى الغرب وتوجهاته المرعبة، التي تنتج الدم والقتل والمحو، تحت سنابك البارود، والصواريخ العابرة للقارات، وغير ذلك من مظاهر استعراض إرادة القوة، مقابل ارادة الاستسلام والتقليد والاستهلاك....إلخ.
وللحقيقة فلم نحد- بالطبع- عن موضوعنا عن الخطاب الشعري العربي المعاصر، ولكننا أردنا التنويه إلى جانب مهم لأهمية الخطاب المعاصر في بناء الحضارة والثقافة والأمم، ولم لهذا الخطاب من أثر مس الجسد العربي والإسلامي، بل والدولي، الذي لا يخضع لسيطرة إرادة القوة، والهيمنة للخطاب العالمي بقيمه المتحررة، وثقافته التي لا تتماشى مع قيمنا وحضارتنا وثقافتنا العربية.
|