القاهرة 22 اغسطس 2023 الساعة 10:32 م
بقلم : سالم الشبانة
"من دفالي بدبر حالي". مثل بدوي..
اللغة إشارية تشير إلى الموجودات اعتباطا -كما أشار دو سوسير- لا تدل أصواتها على معين إلا باتفاق الجماعة البشرية. لقد شغلتني أصوات اللغة الفيزيائية ومدلولاتها التي لا تنفصل عن التصور العقلي بشكل مزعج؛ حتى أن اللفظ يصبح مفرغًا من مدلوله ومعلقًا في الفراغ فوق رأسي كعلامة استفهام كبيرة وأنا أفكر في مدلوله وصوته الفيزيائي.
عندما كانت أمي تطلب منى وأنا طفل صغير أن أحضر لها "الدّفال"، كنت أسأل نفسي من أين جاءت تسمية هذه القطعة من القماش الأبيض _المخططة بخطوط عريضة تشبه قماش الخيام أو الفِراشة_ دفالا! تلك التي تضعها أمي على الأرض، أو فوق طست الألومنيوم المقلوب لتقطع عليها قطع العجين بمقدار قبضة اليد؛ ثم تبدأ بأول قطعة تبطّها بأصابعها؛ ثم ترحها بين كفيها، ثم تضعها على الصاج لتصبح فطائر خبز شهية، وعندما تنتهي تلفّ الأرغفة الساخنة في الدفال لتظل طرية طازجة ولا يجففها لفح الهواء.
من أين جاء لفظ "الدّفال" التي كانت تنطقه كل عشيرتنا وأمي البدوية التي عاشت في قرية السماعنة في محافظة الشرقية في كنف أبيها تاجر المواشي قبل أن تتزوج أبي؟ وكطفل صغير صرت أكرر اللفظة أكثر من مرة بيني وبين نفسي؛ ربما توصلت لسر التسمية، أو تهبني الحروف سرها: دِفال، دِفال، دِفال، مع ذلك لم أتوصل لسر التسمية، ولم ينفعني سحر تكرارها لأصل لمعنى محدد لها. وعندما بحثت عنها في المعاجم في مادة "دفل" كان جذر الكلمة يحيلني على معنى مختلف كليًا كما في لسان العرب مثلا: دفل د ف ل: الدِّفْلَى نبت مر يكون واحدًا وجمعًا ينون ولا ينون فمن جعل ألفه للإلحاق نوّنه في النكرة ومن جعلها للتأنيث لم ينوّنه. بعد سنين طوال كنت أقرأ معلقة عمرو بن كلثوم:
أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَـا وَلاَ تُبْقِي خُمُـوْرَ الأَنْدَرِيْنَـا
ووصلت إلى البيت الذي يتحدث فيه عن "الثفال" الذي يوضع تحت الرحى لينزل عليه دشيش القمح أو الشعير:
يَكُـوْنُ ثِفالُهَا شَرْقِيَّ نَجْـدٍ وَلُهْـوَتُهَا قُضَـاعَةَ أَجْمَعِيْنَـا
الثِّفال: خرقة أو جلدة تبسط تحت الرحى ليقع عليها الدقيق. اللُّهوة القبضة من الحب تلقى في فم الرحى، وقد ألهيت الرحى ألقيت فيها لُهْوَة. يقول: تكون معركتنا الجانب الشرقي في نجد، وتكون قبضتنا قضاعة أجمعين، فاستعار للمعركة اسم الثفال وللقتلى اسم اللهوة ليشاكل الرحى والطحين.([1])
وكذلك بيت زهير بن أبي سلمى:
فَتَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الرِّحَى بِثِفَالِهَا وَتَلْقَحْ كِشَافَاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
وبيت الفرزدق:
فَبُدّلْتُمُ جَودَ الرّبيعِ وحُوِّلَتْ رَحىً عَنْكُمُ كانتْ مُلِحَّاً ثِفَالُهَا
وبيت أبي العلاء المعري:
يا أبا القاسمِ الوزيرَ تَرَحَّلْتَ وخَلَّفْتَنِي ثِفَـالَ رَحَايَـه
مرت علىّ الأبيات ولم أنتبه لكلمة ثفالها؛ لأن دلالة اللفظ أشارت لقطعة القماش التي توضع تحت الرحى؛ وبما أنني عرفت الرحى التي كانت ملكا لجدتي وتأتي جارتها ليطحن عليها حبوب القمح والشعير والذرة، وتطحن عليها جدتي القمح لتصنع البرغل الذي تطبخه وله مذاق شهي، ثم كان أن اطلعت على مقال للشاعر الكبير أمجد ناصر _رحمه الله_ الذي قارن فيه بين ثفال أمه كما تنطق في بادية الأردن وبين ثفال معلقة عمرو بن كلثوم، وزهير ابن أبي سلمى؛ هنا برقت في ذاكرتي "دفال" أمي فالكلمة تحريف لكلمة ثفال، وصرت أكرر اللفظ مرات عدة كما كنت أكرره في طفولتي فرحًا بهذا الاكتشاف، فهذا هو ثفال عمرو بن كلثوم الذي يوضع تحت الرحى، انتقلت دلالته لوضع قطع العجين عليه وبطّها وتجهيزها لكي توضع على الصاج أو في الميفا.
اللغة مرنة تتعرض لما يصيب الكائن الحيّ من أعراض مختلفة عبر تاريخه، وهذا دليل على قوة اللغة ومرونتها وتحضرها.
[1]_ شرح القصائد المعلقات السبع للزوزني
|