القاهرة 15 اغسطس 2023 الساعة 12:26 م

بقلم: علي سرحان
هل تعلم ما هو التصوف؟ هل فكرت يومًا في أن تجرب رحلة روحية تقودك إلى القرب من الله؟ إذا كنت تبحث عن ذلك، فإن التصوف هو المفتاح لتحقيق ذلك.
البعض يظن أن التصوف مجرد اهتمام بالأناشيد والقصائد الدينية، ويغني بها ليل نهار، وآخرون يعتقدون أن التصوف يقتصر على زيارة المقامات وأضرحة أهل البيت عليهم السلام وأولياء الله الصالحين، وحضور الموالد وضرب الدفوف وغرز السيوف. ويظن البعض أن التصوف هو مجموع أوراد وأذكار يرددها السالك بقصد الإرتقاء والوصول لبعض الأحوال ـ والروحانيات والكرامات
ولكن في الحقيقة، التصوف هو حالة قلبية تجعل قلبك مشغولًا بالحق عن كُلِّ الخَلْق. إذا كان قلبك مشغولًا بالباقي عن الفاني، فإنك ستجد نفسك في حضور المُكَوِّن عن كل الأكوان.
التصوف هو تزكية النفس ومجاهدتها، ومحاولة الوصول لأعلى مراتب الإيمان، مقام الإحسان.
بعض الناس يرون التصوف كزهد في الدنيا وخروج منها اختيارًا قبل أن يُضطر للخروج منها اضطرارًا، فإذا كان قلبك مشغولًا بالحق، فستجد نفسك في حالة شهود للحق في كل شيء ومع كل شيء وقبل كل شيء.
هكذا كان المصري القديم في تعليمه الإنسانية والروحانية.
منذ القدم، كانت مصر موطنًا للصوفية، ولا يُمكن إنكار أن التصوف يعود بجذوره إلى تلك الحضارة، ورغم أن المؤرخين والفلاسفة المسلمين يرونه كظاهرة إسلامية خالصة، إلا أن هناك دلائل على أن هذا الفكر قد بدأ في مصر القديمة بشكل مختلف على يد تحوت (سيدنا إدريس).
تُعرَّف التصوف بشتى المصطلحات من قِبَل الفلاسفة والمؤرخين والباحثين، لكن جميع هذه التعاريف تدور في فلكٍ واحد تقريبًا، فهو يشير إلى التزام الإنسان بالزهد في الدنيا والتقرب إلى الله، مع رضاه عن الحياة كما هي، ومن بين التعريفات المشهورة: "الصوفي هو من صَفَا قلبه للَّه"، و"أن تكون صافيًا للَّه".
ومن الملاحظ أن كلمة "صوفي" لم تذكر في أية نص قرآني أو حديث، ولا يُعرف معناها في الإسلام. وتُرجمتها بمعنى "لبس الصوف" هي ترجمة ملفقة وغير صحيحة تمامًا، فالحقيقة هي أن كلمة "صوفي" هي كلمة مصرية قديمة Soph / Seph وكانت تستخدم في تركيب بعض الأسماء المصرية القديمة، وتعبر عن معانٍ مثل الحكمة والتطهر، وعند دخول العرب لمصر، انتشرت اللغة العربية، وقام ذو النون المصري بتبادل المعارف الصوفية المصرية مع المتحدثين بالعربية.
ذو النون المصري هو عالم آثار وصوفي مشهور، وُلد في مدينة إخميم بصعيد مصر في عام 771م وتوفي في عام 860م. كان يُعتبر المصدر الرئيسي للصوفية وأساسها، وهو الذي مهد الطريق لما يعرف الآن ب "الصوفية المتأسلمة"، ويتخذ منه الصوفية مثلا أعلى ومعلمًا للمفاهيم الأساسية للصوفية مثل المعرفة الصوفية المباشرة للإله (الغنوصية)، ومراحل ومحطات الطريق الروحي.
وقد درس العلوم الروحية والكيمياء والطلاسم، وكان خبيرًا في اللغة الهيروغليفية، كما قام بكتابة بحوث حول الخيمياء والطب، ومن أقواله:
"اليقين داع إِلى قصر الأمل، وقصر الأمل يدعو إِلى الزهد، والزهد يورث الحكمة، والحكمة تورث النظر في العواقب".
في مصر القديمة، كانت الصوفية تحظى بشعبية كبيرة على مدى القرون، واشتهر تحوت بين كتاب الصوفية القدماء والمحدثين باعتباره المصدر الأصلي للخيمياء والتصوف وكل ما يتعلق بها من موضوعات، إن علم الخيمياء هو فرع قديم للفلسفة الطبيعية، حيث يسعى الممارسون لهذا العلم إلى تحقيق التوازن والانسجام بين الجسد والروح والعقل.
ويؤمن أتباع التصوف بأهمية التفاني في سبيل تحقيق التلاحم مع الإله والارتقاء بالذات إلى مستوى أعلى من الروحانية. يظهر هذا التأثير في المعتقدات المصرية القديمة، حيث عُرِفَ قدامى المصريين بإدراكهم لأساس التصوف والإيمان به، وكذلك التفاني في سبيل تطوره وتطور رؤية علاقة الإنسان بالإله.
قال الدكتور مصطفى محمود في مذكراته إلى تأثير تصوف المصريين القدماء في معتقداته، فيقول: (كنت أبحث لأنني أريد أن أكتشف الجديد، وحتى في هذا الجانب وجدت أن قدماء المصريين عرفوا التصوف والإيمان والتفاني فيه وله ومن أجله).
ويعترف الكاتب الصوفي المعروف إدريس شاه بدور مصر وتحوت في نشأة الصوفية والخيمياء فيقول: "جاء علم الخيمياء من مصر عن طريق كتابات تحوت وكما جاء في التراث الصوفي نُقل هذا العلم إلينا عن طريق ذي النون المصرى , أحد أهم المعلمين الصوفيين".
و يبرز اسم تحوت بين المعلمين القدامى لما يعرف الآن ب "الطرق الصوفية" , وهو المؤسس للصوفية والخيمياء.
يقول الكاتب البريطاني Thomas H. Burgoyne إن علم الأسترولوجي هو أساس كل العلوم والأديان: "يعتبر هذا العلم المقدس هبة من تحوت للإنسانية عن طريق الحضارة المصرية القديمة. كان تحوت (جحوتي) هو من علّم الإنسانية فن الكتابة والطب وعلم الخيمياء (الصوفية المصرية). كما يُعتَقَد أنه هو من علّم الإنسانية الموسيقى، حيث كانت موسيقى الأفلاك هي أصلها. يُرى في تحوت رمزًا للكلمة المكتوبة التي تنْقِلُ المعرفة من عالم آخر (الدوات) إلى العالم المادي. في حضارة المصريِّين القدامى، كان "الدوات" (العالَمُ آخَر / عالَمُ الروح) هو مصدر جميع الأشياء التي تأتِ منه إلى عالم التجسُّد وتعود إليه مرة أخرى. كان العلم والحكمة من الأشياء التي تأتينا من العالم الآخر، وكان تحوت هو الرسول الذي يجلب هذه الرسالة. كان التنقل بين العوالم من صفات تحوت، ولذا اختار المصرِّيُّون القدامى طائر الأيبيس ليكون رمزًا له، لأن المصرِّيَّةَ قديمًا رأت في طائر الأيبيس أنه يقف على الحد الفاصل بين الماء و اليابسه,وكأنه يقف بين عالمين. كان تحوت هو الكاتب الذي يُدَوِّنُ أحداث المحاكمة التي يجلس فيها الإنسان في قاعة الماعات (العدل والنظام الكوني).
تعتبر نصوص تحوت أو هرمس أو إدريس، التي يُطلق عليها، نصوصًا خاصة بعلم الخيمياء والحكمة الصوفية. "نشأ الخلق من الواحد الأحد ومن العقل الكوني الواحد جاء كل شيء"، فكل الموجودات هي انعكاس لتأملات وفكر الجوهر الواحد، إنما تسمو النار (النور) فوق التراب وتسمو الروح.
|