القاهرة 08 اغسطس 2023 الساعة 12:58 م

كتب: عاطف محمد عبد المجيد
موضوعات الكتاب متنوعة، لكنها تنتمي جميعًا إلى الشأن الثقافي بصفة عامة، والشأن الأدبي بصفة خاصة، ويضم الكتاب موضوعات غير مسبوقة، أي لم يتناولها قلم كاتب من قبل، مثل صورة البغيّ في الشعر العربي الحديث.
هذا ما يقوله الشاعر والكاتب المصري سعد عبد الرحمن في كتابه "من وحي كورونا.. وموضوعات أخرى" الصادر بعد رحيله عن سلسلة إصدارات خاصة التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، وفيه يرفض، بدايةً، نظرة بعض المثقفين الدونية للوظيفة، فهي، مثلما يرى، مجال عمل وطني كأي مجال آخر، والموظف يستحق الاحترام طالما كان نزيهًا في أداء وظيفته، متجردًا من الهوى والغرض.
هنا يكتب عبد الرحمن قائلًا إننا كما نستدل، من قبل، على أن العالم قرية واحدة بما أحدثته ثورة وسائل المواصلات والاتصالات من نتائج، لكننا اليوم مضطرون إلى الاستدلال على ذلك بشيء آخر مختلف، هو الوباء: وباء كورونا على وجه التحديد، ويمكننا الاستدلال به على أن العالم ليس مجرد قرية واحدة فقط، بل على أن مصير سكان هذه القرية هو مصير واحد، مشيرًا إلى أن الحقيقة الوحيدة التي لا مراء فيها هي أن سكان قرية الأرض، لا سيما فتوّاتها وقُطاع الطرق فيها، لا يزالون في كل زمان ومكان أسرى الجشع والأنانية، تسيطر عليهم في أغلب أحوالهم الرغبة في التكويش والاستحواز، ولا يزالون لا يتوقفون عن إيذاء الآخرين وإيذاء بعضهم بعضًا، دون وازع من دين أو ضمير أو أخلاق، متوقعًا أن يكون عصر ما بعد جائحة كورونا خلاف ما كان قبله، آملًا في أن يُعيد الإنسان النظر في كثير من أمور حياته، وربما كان مضطرًّا لفعل هذا، ومثلما نشأ نظام عالمي جديد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فإن الكاتب لا يستبعد أن ينشأ نظام عالمي آخر مختلف بعد انحسار مد الوباء، غير أنه قد يأخذ وقتًا حتى يتشكل.
في سياق حديثه عن هذا الوباء، يتحدث سعد عبد الرحمن عن التأريخ العربي للأوبئة، عن الوباء في عيون الشعراء، عن حكايات من وباء الكوليرا بمصر عام 1902 وعام 1947، مشيرًا إلى أن بعض القراء قد يندهشون من القول بأن هناك علاقة وثيقة غدت، منذ ذلك الوقت، تربط الكوليرا بتاريخ الشعر العربي الحديث، فقد انفعلت الشاعرة العراقية المعروفة نازك الملائكة بأحداث وباء الكوليرا في مصر عام 1947، وكتبت قصيدتها الشهيرة "الكوليرا " التي أصبح يُؤرخ بها في كثير من الكتابات النقدية لبداية شكل جديد من الشعر تعتمد فيه القصيدة في نظامها الموسيقي على وحدة السطر الشعري، لا على وحدة البيت، وقد أطلق بعضهم عليه اسم الشعر الحر، وبعضهم سماه شعر التفعيلة، أما العقاد فقد سماه، اعتراضًا عليه، بالشعر السايب.
في كتابه هذا، الذي يقدم للقارئ عشرة مقالات ودراسات بعضها قديم وبعضها حديث، يصف سعد عبد الرحمن كتاب روح الشرائع بأنه من أهم الكتب التي صدرت بفرنسا في القرن الثامن عشر، وهو أبعد الكتب تأثيرًا في ما جاء بعده من مؤلفات سياسية وقانونية، وقد استلهمت أفكاره عشرات الدساتير في كثير من بلدان العالم، وفيه يذكر أن كثيرًا من النقاد يقيسون قيمة النص الشعري بما يتضمنه من صور فنية جديدة وجمل وتعبيرات مبتكرة غير تقليدية وما يشيع فيه من موسيقى مؤثرة وآسرة وملائمة لمضمونه، وما يثيره فينا من مشاعر وجدانية قوية وعميقة، ورغم تسليم الكاتب بأن كل هذا صحيح، إلا أنه يرى كذلك أن قيمة النص الشعري لا تعود إلى تلك العوامل فقط، بل هناك عوامل أخرى تسهم في تشكيل قيمة النص بنِسَب تختلف وتتفاوت من نص إلى آخر، من أهمها الفكرة المحورية، أو التيمة الأساسية التي يدور حولها النص.
كذلك يكتب هنا سعد عبد الرحمن، في سياق حديثه عن مفهوم الصورة الشعرية، قائلًا إن الشعر هو لون من الأدب يختص بالتعبير عن العواطف والمشاعر الإنسانية في أشد حالاتها تشابكًا وتعقيدًا، والخيال هو الملكة الخلاقة، أو عضو المعرفة في الذهن الذي يقوم بخلق وتشكيل وسيلة التعبير عن هذه العواطف والمشاعر، إنه، يقول الكاتب، مبدع الصور بحسب تعبير الشاعر الإنجليزي وردزورث، مؤكدًا أن الصورة الشعرية ضرورة لازمة لا يمكن للشعر أن يتخلى عنها، بينما يقول، حينما يتحدث عن بعض ملامح الحداثة في القصة القصيرة في صعيد مصر، إن الحداثة مصطلح مشكل شأنه شأن كثير من المصطلحات الثقافية الوافدة التي تتردد على الألسنة والأقلام دون تحديد دقيق لدلالتها.
بينما حين يتعرض الكاتب لصورة البغي في الشعر العربي الحديث، يقول إن الشعر الجاهلي يكاد يخلو من نصوص تتناول بشكل صريح ظاهرة البغاء، وقليلة هي النصوص التي وردت فيها كلمة بغي أو بغاء، مضيفًا أنه لما جاء القرن العشرين كانت الأفكار الجديدة التي ولّدها الانفتاح الثقافي على الغرب قد اكتسحت في طريقها ما انهار من الأفكار القديمة وحلت محلها، وقد حدث ذلك في مجالات شتى من حياة الناس العملية والثقافية، وفي مجال الأدب تحديدًا، وقد حظيت صورة البغي كموضوع للمعالجة الفنية الأدبية بمجموعة غير قليلة من النصوص الشعرية تختلف عن بعضها في شكل المعالجة ومستوى القدرة على التعبير والبراعة في التصوير ومقدار تداخل العام والخاص، ذاكرًا أن من أشهر تلك النصوص "المومس العمياء " لبدر شاكر السياب، وأقدمها نص "دمعة بغي" لمحمود حسن إسماعيل، وأجملها نص "بغي" لنزار قباني، إلى جانب عدد آخر من النصوص التي تناولت هذا الموضوع.
سعد عبد الرحمن يكتب كذلك هنا، بقلم الدارس الباحث المتفحص، عن التمرد الميتافيزيقي في الشعر العربي المعاصر متخذًا من أمل دنقل نموذجًا، مؤكدًا أن التمرد سلوك إنساني طبيعي، يمكننا أن نحمده أو نذمه كشأن أي سلوك آخر، بمقدار ما يصب مضمونه في صالح ارتقاء الإنسان أو ارتكاسه على سلم القيم، مشيرًا إلى أن ما يميز التمرد أن مضمونه شيء ونتائجه شيء آخر، كما أنه سلوك مرتبط بالوعي ارتباطًا وثيقًا، حيث لا يتمرد في الواقع إلا الإنسان الواعي.
|